عاصر الصحابة رضي الله عنهم نزول القرآن الكريم، وشهدوا من أسباب نزوله وتنـزيله على وقائع الحياة ما لم يشهده من جاء بعدهم، فكانوا بحق أعلم هذه الأمة بتفسير هذا الكتاب، وأبصرهم بمقاصده وغاياته.
ولم يكن الصحابة رضي الله عنهم على درجة واحدة بعلم تفسير القرآن الكريم، فقد امتاز بعضهم عن بعض، وعلم بعضهم ما لم يعلمه غيره، لأسباب لا يعنينا في هذا المقام الخوض فيها.
وكان ابن عباس رضي الله عنه من أشهر مفسري الصحابة، مع أنه كان أصغرهم سناً، فقد ولد رضي الله عنه قبل هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بثلاث سنوات، ولازم رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ نعومة أظفاره، وذلك لقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقرابته من ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم.
ولازم ابن عباس -إضافة لملازمته رسول الله صلى الله عليه وسلم- كبار الصحابة، أمثال أبي بكر، وعمر، وأخذ عنهم ما فاته في صغره. وقد شهد له الجميع بسعة علمه، ورجاحة عقله، حتى لقبوه بألقاب عدة: فلُقِّب بـ"البحر"، و"الحبر"، و"ترجمان القرآن". يقول ابن مسعود رضي الله عنه في حقه: (نِعْم ترجمان القرآن ابن عباس) رواه الحاكم في "المستدرك".
وفي "المستدرك" أيضاً من حديث ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (وإن حبر هذه الأمة لعبد الله بن عباس)، وكيف لا يكون كذلك وقد دعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في البخاري بقوله: (اللهم فقهه في الدين) وفي رواية عند أحمد: (وعلِّمه التأويل).
وكان عمر رضي الله عنه -وهو صاحب فراسة- يدنيه من مجلسه، ويستأنس برأيه وعلمه، والقصة التالية تسلط الضوء على ذلك: روى البخاري في "صحيحه"عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: (كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر، فقال بعضهم: لِمَ تُدخل هذا الفتى معنا ولنا أبناء مثله؟ فقال: إنه ممن قد علمتم -يشير بذلك إلى قرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو إلى معرفته وفطنته- قال: فدعاهم ذات يوم ودعاني معهم، قال: وما أَرَيْته دعاني يومئذ إلا لِيُرِيَهُم مني، فقال: ما تقولون في قوله تعالى: {إذا جاء نصر الله والفتح} (النصر:1)، فقال بعضهم: أُمِرْنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا، وقال بعضهم: لا ندري، أو لم يقل شيئاً، فقال لي: يا ابن عباس! أكذاك تقول، قلت: لا، قال: فما تقول، قلت: هو أَجَلُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه الله له...قال عمر: ما أعلم منها إلا ما تعلم).
وكان يُفتي الناس في عهد عثمان، كما كان يفعل ذلك في عهد عمر رضي الله عن الجميع، وكان علي رضي الله عنه يدنيه منه ويعمل برأيه، ومما قاله فيه: (أقرَّ الله عين من له ابن عم مثل هذا).
وكان من منهج ابن عباس في تفسيره لكتاب الله أن يرجع إلى ما سمعه من رسول الله، وما سمعه من الصحابة، فإن لم يجد في ذلك شيئاً اجتهد رأيه، وهو أَهْلٌ لذلك، وكان رضي الله عنه يرجع أحياناً إلى أخبار أهل الكتاب، ويقف منها موقف الناقد البصير، والممحِّص الخبير، فلا يقبل منها إلا ما وافق الحق، ولا يُعوِّل على شيء وراء ذلك.
وقد نُسب لابن عباس تفسير سُمِّي "تنوير المقابيس" طُبع مراراً في مصر، وتدور روايات الكتاب على طريق واحد، هو طريق السدي الصغير، عن محمد بن السائب الكلبي، عن ابن صالح؛ وهذه السلسلة تعرف بسلسلة الكذب. يقول الإمام الشافعي رحمه الله: "لم يثبت عن ابن عباس في التفسير إلا شبيه بمائة حديث"، وعلى هذا، فلا عبرة بهذا التفسير، ولا تصح نسبته إلى ابن عباس، فهو مقول ومختلق عليه.
عاش صحابينا الجليل حياة مليئة بالجِدِّ والعمل، فلم يترك طريقاً من العلم إلا سلكه، ولا بابًا من الخير إلا طرقه؛ وكان مَقْصَد أهل العلم ومبتغاهم، ولما توفي رضي الله عنه، قال في حقه محمد بن الحنفية: "مات والله حِبْر هذه الأمة". وكانت وفاته سنة (68هـ) بالطائف. فالحمد لله الذي أكرم هذه الأمة بأمثال هؤلاء الأفذاذ، ونسأل الله أن يجمعنا معهم تحت لوائه، وفي مستقر رحمته آمين.