كان أبو يوسف التلميذ الأول والصاحب الأهم للإمام أبي حنيفة النعمان حيث أمضى أبو يوسف سنوات طويلة مواظباً على حضور مجلسه العلمي، حتى غدا من أقرب تلاميذه إليه، وأجلهم وأعلمهم، وقد وهبه الله سعة العقل والقدرة على تفريع المسائل، وقد أمد الله في عمره أكثر من 30 سنة بعد وفاة أبي حنيفة، فاستطاع أن يشيد البنيان على ما أسسه أبو حنيفة رحمه الله، وأملى المسائل ونشرها، وبث علم أبي حنيفة في أقطار الأرض.
وأبو يوسف هو أول من تقلد وتولى منصب قاضي القضاة ببغداد في أزهى عصورها فكان هو الذي يعين القضاة في المدن والأقاليم، وقد أتاح هذا المنصب الجليل لأبي يوسف أن ينشر مذهب وفقه شيخه أبي حنيفة، وجعله الفقه الرسمي بالقضاء والإفتاء والتدوين، وأتاح له الذيوع والانتشار.
أما الصاحبان الآخران البارزان لأبي حنيفة بعد أبي يوسف فهما محمد بن الحسن الشيباني وزفر بن الهذيل.
اسمه ونشأته وطلبه العلم
هو يعقوب بن إبراهيم بن حبيب بن خُنيس بن سعد، عربي الأصل، وكان يكنى أبا يوسف، وجده سعد بن بحير البجلي الأنصاري الكوفي، الذي عُرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق وهو صغير، مع رافع بن خديج وعبد الله بن عمر.
ولد أبو يوسف في الكوفة عام 113هـ، ونشأ في أسرة فقيرة الحال، ولكنه تحدى العوز والتحق بحلقات الدراسة في الكوفة، حيث سمع من عدد من العلماء والفقهاء فيها، ولكن الفضل الكبير في تكوينه العلمي يعود إلى الإمام أبي حنيفة النعمان صاحب المذهب الحنفي.
بدأ طلب العلم بحفظ القرآن الكريم ودرس العربية والفقه والأصول، وعرف بالنجابة والذكاء، واتجه منذ الصغر إلى دراسة الحديث، فسمع أبا إسحاق الشيباني ويحيى بن سعيد الأنصاري وهشام بن عروة وعطاء بن السائب.
ودرس المغازي وأيام العرب على محمد بن إسحاق صاحب السيرة النبوية المعروفة باسمه، وتتلمذ على عبد الرحمن بن أبي ليلى، الفقيه الكوفي المعروف، وانتسب إلى حلقة الإمام أبي حنيفة، ودفعته الحاجة إلى العمل لمواجهة ضرورات الحياة، فتعهده الإمام أبو حنيفة بالرعاية وأمده بالمال حتى يتفرغ تماماً للدراسة وطلب العلم، وظل ملازماً لأبي حنيفة قرابة 17 سنة.
وبعد تلقى «أبو يوسف» العلم من الإمام أبي حنيفة النعمان رحل إلى المدينة، واتصل هناك بالإمام مالك، فأخذ عنه الفقه والحديث، واكتشف منهجا يختلف اختلافاَ تاماَ عن منهج إمامه أبي حنيفة النعمان، فوازن بينهما وقارن، ثم رجع إلى العراق مزودا بعلم أهل المدينة، فجمع بين المدرستين، مدرسة الأثر في المدينة، ومدرسة الرأي في العراق.
الأستاذ يرعى تلميذه
قال أبو يوسف: صحبت أبا حنيفة 17 سنة لا أفارقه في فطر ولا أضحى إلا من مرض
ولصحبته لأبي حنيفة قصة يرويها لنا أبو يوسف فيقول: كنت أطلب الحديث والفقه عند أبي حنيفة، وأنا مقل (يعني قليل المال) رث الحال والهيئة، فجاءني أبي يومًا فانصرفت معه، فقال لي: يا بني، لا تمد رجلك مع أبي حنيفة (أي لا تذهب إليه) فإن أبا حنيفة خبزه مشوي (يقصد أنه غني وقادر على أن يعيش عيشة كريمة) وأنت تحتاج إلى معاش (عمل حتى تنفق على نفسك ولا تنقطع للعلم)، فقصرت عن كثير من الطلب (أي طلب العلم) وآثرت طاعة أبي، فتفقدني أبو حنيفة وسأل عني، فلما كان أول يوم أتيته بعد تأخري عنه؛ فقال لي: ما شغلك عنا؟ قلت: الشغل بالناس وطاعة والدي، وجلست حتى انصرف الناس، ثم دفع لي صرة وقال: استمتع بها، فنظرت فإذا فيها مائة درهم وقال: الزم الحلقة وإذا أفرغت هذه (إذا أنفقتها) فأعلمني، فلزمت الحلقة، فلما قضيت مدة يسيرة، دفع إليَّ مائة أخرى، ثم كان يتعهدني (يرعاني) وما أعلمته بقلة قط، ولا أخبرته بنفاد شيء، وكأنه يخبر بنفادها وظل كذلك حتى استغنيت.
ولهذا كان أبو يوسف يردد دائماً القول: «أطعمني أبو حنيفة العلم والدنيا إطعاماً».
وكان يقول: ما تركتُ الدعاء لأبي حنيفة مع أبَوَيَّ أربعين سنة.
وكان يقول: سمعت السلف يقولون من لا يعرف الفضل لأستاذه لا يُفلح.
توليه القضاء:
ظل أبو يوسف في الكوفة فترة من الزمن بعد وفاة أبي حنيفة، يُدَرس ويُفتي، ثم انتقل إلى بغداد حيث عمل في التدريس والإفتاء أيضاً. وسرعان ما ذاع صيته
فعينه الخليفة المهدي في منصب قاضي القضاة في سنة 166، وأقره عليه الهادي سنة 169 ثم هارون الرشيد حين تولى الخلافة سنة 170 فبقي فيه 17 سنة حتى وفاته سنة 183، وكان في قضائه مثال الإنصاف والحيدة، وحسن تأتيه للأمور.
تجمع المصادر على ما حظي به أبو يوسف من احترام وتقدير عند الرشيد، فقد كان يجالسه ويأكل على مائدته، وكان أبو يوسف يرافق الخليفة أحياناً إلى الحج وفي بعض رحلاته خارج العاصمة كالبصرة.
قال الذهبي:بلغ أبو يوسف من رئاسة العلم ما لا مزيد عليه وكان الرشيد يبالغ في إجلاله.
نشر العلم إلى آخر نفس
كان آخر أعمال أبي يوسف قبل وفاته هو التفكر في مسائل الفقه، فقد زاره إبراهيم بن الجراح التميمي المازني الكوفي ثم القاضي نزيل مصر، المتوفى سنة 217هـ، وكان قد تفقه على أبي يوسف وسمع منه الحديث، قال إبراهيم: أتيته أعوده فوجدته مغمى عليه فلما أفاق قال لي: يا إبراهيم ما تقول في مسألة؟ قلت: في مثل هذه الحال؟! قال: ولا بأس بذلك؛ ندرس فينجو به ناج.
ثم قال: أيما أفضل في رمي الجمار، أن ترميها راكبا أو ماشيا؟ فقلت: راجلا. فقال: أخطأت. فقلت: راكبا. فقال لي: أخطأت. ثم قال: أما ما كان يوقف عنده للدعاء فالأفضل أن ترميها راجلا لأنه أشد لتمكنك وأغزر لدعائك، وأما ما كان لا يوقف عنده، فالأفضل أن ترميها راكبا لأنه أسرع لتنحيك. ثم قمت من عنده فما بلغت باب داره حتى سمعت الصراخ عليه وإذا هو قد مات.
وفي مرآة الزمان لسبط ابن الجوزي: كان أبو يوسف يقول يا ليتني لم أدخل في القضاء على أني بحمد االله تعالى ما تعمدت جورا ولا حابيت خصما على خصم من سلطان أو سوقة، اللهم إنك تعلم أني لم أجر في حكم حكمت به بين عبادك متعمدا، ولقد اجتهدت في الأحكام بما يوافق كتابك وسنة نبيك صلى االله عليه وسلم وما أشكل جعلت أبا حنيفة بيني وبينك وكان أبو حنيفة يعرف أمرك ولا يخرج عن حكمك.
وفاته
في الخامس من ربيع الأول عام 182هـ توفي في بغداد، عن 69 سنة، وقد حزن هارون الرشيد حزناً شديداً على وفاته وصلى عليه ومشى بجنازته، وأمر بدفنه في مقابر قريش شمال بغداد في مدينة الكاظمية حالياً، فرحمه الله ورفع درجته في عليين.