من المعلوم أن الوفاء بالعقود مبدأ أساسي من مبادئ ديننا الحنيف، يحتاجه الناس ليظلوا آمنين وتستقر معاملاتهم، وتصلح حياتهم.. ولهذا أمرنا الله تعالى به في كتابه أمرا مباشرا فقال تبارك وتعالى في مطلع سورة المائدة: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}[المائدة:1].
فما هي العقود؟ ومع من تكون؟ وكيف يكون الوفاء بها؟ وما هو جزاء من وفى ومن خان؟
العقود: جمع عَقد، وهو مأخوذ من الشد والربط، ومنها قولهم: عقدت الحبل، إذا شددته وربطته، ومبناها قائم على التأكيد والتوكيد والاستيثاق والتوثيق.
وهذه العقود نوعان:
عقود ومواثيق تكون بين الإنسان وخالقه، وعقود ومواثيق ومعاملات تكون بين الناس بعضهم وبعض. وفي الآية أمر بالوفاء بهذه العقود جميعا، مع الخالق ومع المخلوقين.
ولذلك قال الزجاج: "المعنى أوفوا بعقد الله عليكم، وبعقدكم بعضكم مع بعض".
قال الله عز وجل: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ ولا تَنقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًاۚ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ}[النحل:91]، وقال: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً}[الاسراء:34]. وقال صلى الله عليه وسلم: (لا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ)[مسند أحمد والبزار].,
العقود والمواثيق مع الله
والعقود بين الله وبين عباده لها أشكال كثيرة.. فمن ذلك:
أولا: ميثاق العبودية وإفراد الله بجميع صورها، وتوحيده سبحانه في ربوبيته وألوهيته وحاكميته وأسمائه وصفاته، وأن نقوم بحق العبودية معه جل في علاه، كما أمرنا بقوله: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا}[النساء:36]. وقال: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ ۖ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ . وَأَنِ اعْبُدُونِي ۚ هَٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ}[يس:60، 61].
فهذا أول عقد وأول ميثاق وأول عهد فيما بيننا وبين الله تعالى، أخذه الله علينا ونحن في ظهر آدم كما قال سبحانه: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْۖ قَالُوا بَلَىٰۛ شَهِدْنَاۛ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ}[الأعراف:172].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ: (يا مُعاذُ، أتدري ما حَقُّ اللهِ على العِبادِ، وما حَقُّ العِبادِ على اللهِ؟ قُلتُ: اللهُ ورَسولُه أعلَمُ، قال: حَقُّ اللهِ على العِبادِ أن يَعبُدوه ولا يُشرِكوا به شَيئًا، وحَقُّ العِبادِ على اللهِ ألَّا يُعَذِّبَ مَن لا يُشرِكُ به شيئًا)[متفق عليه].
ثانيا: العقد والميثاق بإقامة شريعته سبحانه، والقيام بأركان الإسلام وأوامره التي أمرنا الله بها: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}[الجاثية:18].
ثم إقامة أركان الإٍسلام التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل وغيره: (إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلا)(متفق عليه]، وكذلك ما أمر به من الفرائض والواجبات كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصح للمسلمين وما شابه.
ثلاثا: طاعته فيما أحل وحرم، وأمر ونهى، فلا حلال إلا ما أحله الله، ولا حرام إلا ما حرم الله، وعدم التقول على الله سبحانه والافتئات والكذب عليه بتحريم الحلال أو تحليل الحرام.. قال سبحانه: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَٰذَا حَلَالٌ وَهَٰذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَۚ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ . مَتَٰعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[النحل:116، 117].
رابعا: الأيمان والنذور: أي من العهود والعقود ما أوجبه الإنسان على نفسه من عهود، أو نذور، أو أيمان منعقدة مؤكدة، قال تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ}[المائدة:89]، وقال: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ}[المائدة:89]، وقال: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ}[الإنسان:7]، وقال: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ}[الحج:27]..
والمقصود بالوفاء بتلك العهود، هو القيام بحق هذه المواثيق، وأداؤها على وجهها، وعدم الخيانة فيها، وأن تؤدى كاملة غير منقوصة كما أمر الله..
فمن وفى لله فيها وقام بحقها، وفَّى الله بوعده له كما قال عز وجل: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ}، وقال: {وَمَنْ أَوْفَىٰ بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}[الفتح:10].
عقود ومواثيق بين الناس:
وهو ما عقده المرء مع غيره من بني الإنسان بلفظ عهد أو بيع أو نكاح أو تأجير أو كفالة أو ضمان أو مشاركة أو مغارسة أو مساقاة أو مزارعة، وكذا عقود المعاملات والشركات والمقاولات أو الإجارة وغير ذلك في حدود ما جاء به الشرع الحنيف. فمن هذه الحقوق:
الميثاق بين الراعي والرعية: وهو ميثاق يقوم فيه كل طرف بما وجب عليه لينال ما له من حق تجاه الطرف الآخر:
فحق الرعية على راعيها أن يقيم فيهم دين الله، وهذا أصل الحكم والإمارة ومقصدها الأول، والحكم فيهم بالشرع وحملهم عليه، والسير فيهم بالقسط والعدل، وأن يدفع عنهم الظلم والشر والقهر، وأن يرعى مصالح دينهم ودنياهم، ويلزمهم طاعة الله ويأمرهم بها، وينهاهم عن معصيته ويمنعهم عنها؛ فإنه راع ومسئول عن رعيته.
فإذا فعل هذا ووفى لهم كان مستحقا أولا لوعد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون أول السبعة الذين يظلم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله (إمامٌ عادل).. وكان له حق على رعيته أن يسمعوا له ويطيعوا فيما أمرهم به بغير معصية، وله عليهم أن يناصحوه بالمعروف ويعينوه على ما هو فيه، وألا ينازعوا الأمر أهله، وهو معنى قوله تعالى : {يٰأيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ}[النساء:59].
وأما إن لم يفعل ولم يوف لهم وإنما أخذ أموالهم، وضرب ظهورهم، وأفسد دينهم ودنياهم، وعتى وظلم، وغشهم ولم ينصح لهم، كان ممن قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: (ما مِنْ عبدٍ يسترْعيه اللهُ رعيَّةً ، يموتُ يومَ يموتُ ، وهوَ غاشٌّ لرعِيَّتِهِ ، إلَّا حرّمَ اللهُ عليْهِ الجنَّةَ)[متفق عليه].
عقود النكاح: وقد سماه الله {ميثاقا غليظا}، وخلاصته {إِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}، وفيه لكل طرف حقوق وعليه واجبات، وعلى كل منهما القيام بحق صاحبه عليه، من صيانة الدين، وحسن الصحبة، والمعاشرة والمعايشة بالمعروف، والسعي في إعفاف كل منهما لصاحبه، والتعاون على تربية الأولاد ومشاق الحياة، والتعاون عموما على البر والتقوى، قال تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}[النساء:19].
فإن استحالت الحياة فقد جعل الله لكل منهما مخرجا في الطلاق.. أما الظلم والعضل والإساءة فليست من دين الله كما قال صلى الله عليه وسلم: (خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي).
عقود البيع والشراء: فأمر البائع بالصدق والأمانة، وعدم إخفاء عيب السلعة، وأمر المبتاع بأداء الأجرة وعدم الخيانة، وأن في هذا البركة لهما جميعا، قال صلى الله عليه وسلم: (الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَذَبَا وَكَتَمَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا)[البخاري].
عقود الشراكة: وهي من الأمور التي فاحت روائحها وانتشرت فضائحها في زماننا، لأن الناس لم يسمعوا لأمر الله بالكتابة والتوضيح، وكذلك في الوفاء والنصح وعدم الخيانة والغدر، وقد روي في بعض الآثار القدسية: (إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ أَنَا ثَالِثُ الشَّرِيكَيْنِ مَا لَمْ يَخُنْ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ فَإِذَا خَانَهُ خَرَجْتُ مِنْ بَيْنِهِمَا)[سنن أبي داود].
عقود الإجارة: سواء كان الأجير موظفا في شركتك، أو سائقا في بيتك، أو عاملا في مزرعتك، أو رجلا استأجرته ليعمل لك عملا ما، فيلزم الوفاء، وعدم الظلم والبخس، ثم إن استحق الأجر فإياك والمماطلة، وإياك والنكث في الوفاء فيما اتفقتما عليه، فقد قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه ابن ماجة: (أَعْطُوا الْأَجِيرَ أَجْرَهُ، قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ)، وفي الحديث القدسي في صحيح البخاري يقول رب العزة سبحانه: (ثَلاَثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ، وَلَمْ يُعْطِ أَجْرَهُ).
جزاء الموفين
والوفاء صدق وأمانة، وعدم الوفاء غدر وخيانة، وهي من صفات المنافقين التي ذكرها الرسول صلى الله عليه وسلم(إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان)[متفق عليه].
وقد وعد الله الموفين بالعهود بأعظم الجزاء فقال: {إنما يتذكر أولوا الألباب . الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ ... إلى أن قال: (...أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ. جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ . سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) [الرعد:20-24].
وحذر الناكثين فقال سبحانه: {وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَٰئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ}[الرعد:25].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنَّ الغادِرَ يُنْصَبُ له لِواءٌ يَومَ القِيامَةِ، فيُقالُ: هذِه غَدْرَةُ فُلانِ بنِ فُلانٍ)[رواه البخاري ومسلم].
فخلف الوعد نقيصة في الدنيا، وفضيحة في الآخرة.. نسأل الله أن يجعلنا من الموفين بعهودهم مع الله ومع خلقه، وأن يجعل لنا عقبى الدار.