حقيقة التوحيد وعلاقته بالأعمال الظاهرة والباطنة
28/10/2024| إسلام ويب
جماع الدين وأصله وغايته: توحيد الله تعالى وتحقيق العبادة له، ومبدأ ذلك يكون بنطق الشهادتين، شهادة ألا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، بهما يدخل الإنسان في دين الله الإسلام، ثم إن تحقيق هذه الشهادة، والعمل بمقتضاها؛ شرط لبقاء وصف الإسلام قائمًا فيه، وهذا الإسلام هو دين التوحيد الذي أرسل الله به كل أنبيائه على اختلاف شرائعهم، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25]، وقال صلى الله عليه وسلم: «الأنبياء إخوة لعلات، أمهاتهم شتى ودينهم واحد» رواه البخاري.
بالإسلام يحقق المسلم توحيد الله تعالى، ويؤمن بكل أنبياء الله تعالى، وبما بعثوا به من التوحيد وغيره، وشهادة التوحيد سبب الفوز بالجنة والنجاة من النار، قال صلى الله عليه وسلم: «أشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيهما، إلا دخل الجنة» رواه مسلم. وقال صلى الله عليه وسلم: «ما من عبد يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله إلا حرمه الله على النار» رواه مسلم.
من أهم ما ينبغي على المسلم فهمه في هذا المقام: أن المراد بهاتين الشهادتين ليس مجرد النطق باللسان، وإنما تحقيقهما ظاهرًا وباطنًا، وعدم مناقضتهما، قال المنذري عن طائفة من العلماء: "فإن كل ما هو من أركان الدين، وفرائض الإسلام هو من لوازم الإقرار بالشهادتين وتتماته، فإذا أقر ثم امتنع عن شيء من الفرائض جحدًا أو تهاونًا على تفصيل الخلاف فيه؛ حكمنا عليه بالكفر وعدم دخول الجنة".
فلا بد للمسلم من معرفة حقيقة الدين ليحقق توحيد الله تعالى الذي هو مقتضى شهادة ألا إله إلا الله، ومعرفة حقيقة الالتزام بالشريعة التي هي مقتضى شهادة أن محمدًا رسول الله أيضًا.
أصل معنى شهادة ألا إله إلا الله أي لا معبود بحق إلا الله تعالى، وجماع معنى الألوهية في لغة العرب: فزع القلب إلى الله تعالى، وسكونه إليه، واتجاهه إليه لشدة محبته له، وافتقاره إليه. قال ابن القيم في ذلك: "واسم الله دال على كونه مألوهًا معبودًا، تؤلِّهُهُ الخلائق محبةً وتعظيمًا وخضوعًا، وفزعًا إليه في الحوائج والنوائب"، وفزع القلوب إلى الله تعالى ومحبته: هو إخلاص القصد والإرادة في التوجه إليه سبحانه.
وإن نفس الإنسان لا يمكن أن تخلو عن الإرادة بحال، وهذه الإرادة لا بد لها من مُراد وغاية، والنفس البشرية مفطورة على ألا يكون مرادها إلا الله تعالى، وهي في ذلك إما أن تكون مخلصة في توجهها إليه، وإما أن تنحرف عنه تبعًا لشهواتها وهواها، قال ابن تيمية: "النفس لا تخلو عن الشعور والإرادة، بل هذا الخلو ممتنع فيها، فإن الشعور والإرادة من لوازم حقيقتها، ولا يتصور أن تكون النفس إلا شاعرةً مريدةً، ولا يجوز أن يقال: إنها قد تخلو في حق الخالق تعالى عن الشعور بوجوده وعدمه، وعن محبته وعدم محبته...، وإذا كان لا بد للإنسان من مراد لنفسه، فهذا هو الإله الذي يألهه القلب، ومن الممتنع أن يكون مفطوراً على أنه يأله غير الله".
ولكون الإنسان مفطورًا على ذلك؛ جاء الأمر بإخلاص التوجه لله في الإرادة والقصد، وكانت هذه الغاية أصل الدين وأساسه، وكان الانحراف عنها شركًا به سبحانه وتعالى.
فعلاقة المؤمن بربه إرادةٌ مبعثُها المحبة والتعظيم والإجلال، مع الإقرار لله بالربوبية، وعلى العبد محض العبودية، وتقديم محبة الله تعالى على كل محبة، وميل الإرادة عن كل مراد غير الله تعالى هو الحنيفية التي خلق الله الخلق لأجلها. قال ابن القيم: "لا نسبة بين الله وبين العبد إلا محض العبودية من العبد، والربوبية من الرب، وليس في العبد شيء من الربوبية، ولا في الرب شيء من العبودية، فالعبد عبد من كل وجه، والرب تعالى هو الإله الحق من كل وجه، ومعقد نسبة العبودية هو المحبة، فالعبودية معقودة بها، بحيث متى انحلت المحبة انحلت العبودية".
وإذا كانت علاقة العبد بربه تعالى إرادةٌ مبعثها المحبة والافتقار إليه؛ فإن ذلك ليس مجرد دعوى بلا دليل، بل لا بد من العمل بمقتضى ذلك ولوازمه حتى يتحقق فيه إخلاص توحيد الله تعالى، وتلك اللوازم لوازم باطنة ولوازم ظاهرة، فلوازم التوحيد الباطنة هي: أعمال القلوب من الخوف والرجاء والتوكل والإخلاص، وغيرها من الأعمال التي تتحقق بها -إن صدقت- محبة العبد لربه، وإن لم تتحقق أعمال القلوب في العبد؛ كان ذلك دليلًا على عدم تحقق المحبة في قلبه ولا صدقها. قال ابن تيمية: "قال من قال من السلف: من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري، ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن موحد".
وأما لوازم التوحيد الظاهرة فهي: اتباع أوامر الله تعالى، واجتناب نواهيه، والدعوة لدينه، وذلك يعني أن من أحب الله تعالى لا بد أن تكون إرادته تابعة لإرادة الله تعالى ومحبته، فما أحبه الله وأمر به أحبه العبد والتزم به، وما نهى الله تعالى عنه انتهى عنه العبد وكرهه، وتحقيق ذلك باتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم والتزام شريعته، قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 31]، فمن اتبع رسول الله والتزم شريعته فهو محب لله تعالى، ومن لم يتبعه ويلتزم شريعته فليس محبًا لله تعالى، وعلى قدر محبة العبد لله تعالى يكون اتباعه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك يتفاوت الناس تفاوتًا عظيمًا، وهذه هي حقيقة زيادة الإيمان ونقصانه، وإذا ما انتفى الاتباع بالكلية انتفت المحبة بالكلية.
وقد أفادت كثير من الآيات والأحاديث أن الاتباع في الأعمال من علامات محبة الله تعالى، فمن ذلك قوله تعالى في الجهاد: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ } [المائدة: 54]، وقوله صلى الله عليه وسلم: : «ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار» رواه البخاري. وغيرها من الآيات والأحاديث الدالة على ذلك.
وهكذا تبين لنا أن حقيقة التوحيد والعبودية: محبة تستلزم طاعة الله تعالى، والالتزام بشريعته.