الموت أمْرٌ كتبه الله عز وجل على جميع بني آدم، قال الله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ}(آل عمران:185). قال ابن كثير: "يخبر تعالى إخبارا عاما يعم جميع الخليقة بأن كل نفس ذائقة الموت، كقوله: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ}(الرحمن:27:26) فهو تعالى وحده هو الحي الذي لا يموت". وقد وعد الله تعالى الصابرين على مُصابهم الأجر العظيم الذي لا حدَّ له فقال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأمْوَالِ وَالأنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}(البقرة:157:155). قال السعدي: "مَنْ وفقه الله للصبر عند وجود هذه المصائب، فحبس نفسه عن التسخط قولا وفعلا، واحتسب أجرها عند الله، وعَلِم أن ما يدركه مِنَ الأجر بصبره أعظم من المصيبة التي حصلت له، بل المصيبة تكون نعمة في حقه، لأنها صارت طريقا لحصول ما هو خير له وأنفع منها، فقد امتثل أمر الله، وفاز بالثواب، فلهذا قال تعالى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} أي: بشرهم بأنهم يوفون أجرهم بغير حساب".
إن فَقْد الأحبَّة بالموت، خَطْبٌ مؤلم، وألم موجع، ومصيبة كبيرة، بل هو مِنْ أشد المصائب التي تمر على الإنسان في حياته، والحزن والبكاء عند حدوثه فِطْرة بشرية وطبيعة إنسانية، وما مِنْ أحد مِن الأحياء إلا وسيُبْتَلى بمصيبةِ فقدِ حبيبٍ له ـ من أب، أو أم، أو ابن، أو ابنة، أو زوج، أو زوجة، أو قريب، أو صاحب.. وقد قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ}(الزُّمر:30). وعن سهل بن سعد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أتاني جبريل فقال: يا محمَّد! عِشْ ما شئتَ فإنَّك ميِّتٌ، وأحبِبْ من شئتَ فإنَّك مفارقُه، واعمَلْ ما شئتَ فإنَّك مجزِيٌّ به) رواه الحاكم. ومما تقر به أعين المصابين بموت أو فقد أحد من أحبابهم، ومما تسكن به قلوبهم، قراءة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم الذي ابتُلِيَ بوفاة زوجته وأبنائه والكثير من أصحابه، ففيها الدواء للمُبْتَلَى والمكروب، والعون على فراق وفقْدِ المحبوب.
وفاة أبوي النبي صلى الله عليه وسلم:
لم تكتحل عيناه صلى الله عليه وسلم برؤية أبيه عبد الله بن عبد المطلب، إذ تُوفي وهو حَمْل في بطن أمه، وأمه آمنة بنت وهب عاش معها ست سنين ثم توفيت، فكان صلوات الله وسلامه عليه يزورها ويبكي عند قبرها. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (زارَ النبي صلى الله عليه وسلم قبرَ أمِّهِ فبَكى وأبْكى مَنْ حوله، فقال: استأذَنتُ ربِّي في أن أستغفرَ لها فَلم يأذَن لي، واستأذَنتُ ربِّي في أن أزورَ قبرَها فأذنَ لي، فزوروا القُبورَ فإنَّها تذَكِّر بالموت) رواه مسلم.
وفاة زوجته خديجة:
توفيت خديجة رضي الله عنها في العام العاشر من بعثته صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة بثلاث سنين، ولها من العمر خمس وستون سنة، ودفنت بالحجُون، وأنزلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه في حفرتها، وأدخلها القبر بيده، وحزن عليها حزنا شديدا، فهي التي آزرته في أحرج الأوقات، وأعانته على إبلاغ رسالته، وواسته بنفسها ومالها، وظلت ربع قرن من الزمان تتحمل معه كيد الخصوم، ومتاعب تبليغه لرسالته التي بعثه الله بها، ولذلك كان موتها من أكبر المصائب التي مرت به صلى الله عليه وسلم، حتى حزن عليها أشد الحزن وظل يذكرها بالخير طوال حياته، ويبين فضلها وإحسانها. عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكاد يخرج مِن البيت حتى يذكر خديجة فيحسن الثناء عليها، فذكرها يوما من الأيام، فأخذتني الغيرة، فقلتُ: هل كانت إلا عجوزا، قد أبدلك الله خيرا منها؟ فغضب ثم قال: لا، والله ما أبدلني الله خيرا منها، آمنت بي إذ كفر الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله منها الولد دون غيرها من النساء) رواه أحمد.
وفاة أولاده:
نبينا مُحمد صلى الله عليه وسلم كان له من الأبناء سبعة، كلهم من خديجة رضي الله عنها إلا إبراهيم عليه السلام، وهم القاسم، وعبد الله، وزينب، ورقية، وأم كلثوم، وفاطمة ـ رضي الله عنهم ـ، وشاء الله أن يموت القاسم وعبد الله واحدًا بعد الآخر، فلم يعيشا طويلاً، أما البنات فقد توفيت ثلاث منهن في حياته صلى الله عليه و سلم، ولحقت بهم الرابعة ـ فاطمة رضي الله عنها ـ به بعد وفاته بستة أشهر.
قال النووي: "كان له صلى الله عليه وسلم ثلاثة بنين: القاسِم وبه كان يُكَّنَّي، وُلِدَ قبل النبوة، وتوفي وهو ابن سنتين، وعبْد الله وسُمي الطيب والطاهر، لأنه وُلِدَ بعد النبوة، وإبْراهيم وُلِدَ بالمدينة سنة ثمان، ومات بها سنة عشر وهو ابن سبعة عشر شهرا أو ثمانية عشر، وكان له أربع بنات: زينب تزوجها أبو العاص بن الربيع وهو ابن خالتها هالة بنت خويلد، وفاطِمة تزوجها على بن أبى طالب رضي الله عنه، ورقية وأم كلثوم تزوجهما عثمان بن عفان رضي الله عنه، تزوج رقية ثم أم كلثوم وتوفيتا عنده ولهذا سُمِّي ذا النورين، تُوفيَت رُقَيَّة يوم بدر في رمضان سنة اثنتين من الهجرة، وتوفيت أمُ كُلثوم في شعبان سنة تسع من الهجرة، فالبنات أربع بلا خلاف، والبنون ثلاث على الصحيح، وأول من وُلد له القاسم، ثم زينب، ثم رقية، ثم أم كلثوم، ثم فاطمة، وجاء أن فاطمة أكبر من أُم كلثوم، وكلهم مِنْ خديجة إلا إبراهيم فإنه من مارية القبطية، وكلهم توفوا قبله إلا فاطمة فإنها عاشت بعده ستة أشهر على الأصح والأشهر" .
بكاؤه وحزنه على ولده:
يصف أنس بن مالك رضي الله عنه حال وموقف النبي صلى الله عليه سلم عند موت ابنه إبراهيم فيقول: (دخلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبى سيف القَيْن (الحداد)، وكان ظِئْرًا لإبراهيم (أباً له من الرضاعة)، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم إبراهيمَ فَقَبَّلَه وَشَمَّه، ثم دخلنا عليه بعد ذلك، وإبْرَاهيم يجود بنفسه، فجعلت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم تذرفان، فقال له عبد الرحمن بن عوف: وأنت يا رسول الله؟! فقال: يا ابن عوف، إنها رحمة، ثم أتبعها بأخرى، فقال صلى الله عليه وسلم: إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يُرضى ربنا، وإنا بفراقك يا إبرَاهيم لمحزونون) رواه البخاري. قال المناوي: "فيه الرخصة في البكاء بلا صوت والإخبار عما في القلب من الحزن، وإن كان كتمه أولى، ودمع العين وحزن القلب لا ينافي الرضى بالقضاء، وقد كان قلبه صلى الله عليه وسلم ممتلئا بالرضى".
بكاؤه وحزنه على أصحابه:
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: (اشتكى سعد بن عُبادة شكوى له، فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلّم يعوده مع عبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنهم، فلما دخل عليه وجده في غاشية أهله، فقال: قد قضى، فقالوا: لا، يا رسول الله، فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فلما رأى القوم بكاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بكوا، فقال: ألا تسمعون، إن الله عز وجل لا يعذّب بدمع العين، ولا بحزن القلب، ولكن يعذب بهذا ـ وأشار إلى لسانه ـ أو يرحم) رواه البخاري.
أحاديث نبوية في الصبر وتسلية المُصاب عند فقد الأحباب:
1 ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يقول الله تعالى: ما لعبدي جزاء إذا قَبَضْتُ صَفِيَّه (الحبيبُ المُصافي، كالولدِ والأخِ وكلِّ مَن أحَبَّه الإنسان) مِنْ أهل الدنيا ثم احتسبه (صبَرَ على ذلك راجيًا الثَّوابَ مِن اللهِ سُبحانَه) إلا الجنة) رواه البخاري.
2 ـ عن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: (أرسلت ابنة النبي صلى الله عليه وسلم أن ابنا لي قُبض (مات) فأتنا، فأرسل يقرئ السلام ويقول: إن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فلتصبر ولتحتسب) رواه مسلم.
3 ـ كان صلوات الله وسلامه عليه يعلم أن النساء يصيبهن الجزع أكثر من الرجال، فكان يحرص على تذكيرهنَّ بالصبر والاحتساب عند المصائب. عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (قالت النساء للنبي صلى الله عليه وسلم: غلبنا عليك الرجال، فاجعل لنا يوما من نفسك، فوعدهن يوما لقِيَهُنَّ فيه فوعظهن وأمرهن، فكان فيما قال لهن: ما منكن امرأة تقدم ثلاثة من ولدها (يَموتُ لها ثَلاثةٌ مِنَ الولدِ في حَياتِها) إلا كان لها حجابا من النار، فقالت امرأة: أو اثنين فقال: واثنين) رواه البخاري.
4 ـ عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا مات ولَدُ العبد قال الله لملائكته: قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم، فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده؟، فيقولون: نعم، فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع، فيقول الله: ابنوا لعبدي بيتا في الجنّة، وسمّوه بيت الحمد) رواه التّرمذي.
5 ـ عن قُرَّة بن إياس المُزنيُّ رضي الله عنه: (كانَ نبيُّ اللَّهِ صلى اللَّه عليه وسلّم إذا جلس يجلِس إليه نفرٌ من أصحابِه، وفيهم رجلٌ لَهُ ابنٌ صغيرٌ يأتيه من خلفِ ظَهْرِه، فيُقعدُهُ بينَ يديه (بيان شدة حب وتَعَلُّق الرَّجل بابنِه)، فَهَلَكَ (مات) فامتنعَ الرَّجلُ أن يحضُرَ الحلقةَ لذِكْرِ ابنِه، فحزنَ عليه، ففقدَهُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم فقال: مالي لا أرى فلانًا؟ قالوا: يا رسول اللَّه، بُنَيُّه الَّذي رأيتَهُ هلَك، فلقيَهُ النَّبيُّ فسألَه عن بُنَيِّه فأخبرَهُ أنَّه هلَك، فعزَّاهُ عليه، ثمَّ قال: يا فلان، أيُّما كانَ أحبُّ إليكَ أن تُمتَّعَ بِهِ عمُرَك، أو لا تأتي غدًا إلى بابٍ من أبوابِ الجنَّةِ إلَّا وجدتَهُ قَد سبقَكَ إليه يفتَحُهُ لَك؟ قالَ : يا نبيَّ اللَّه، بل يَسبقُني إلى بابِ الجنَّة فيَفتحُها لي لَهوَ أحبُّ إليَّ، قال: فذاكَ لَك) رواه النسائي. وفي رواية أخرى: (فقال رجل : يا رسول الله، لَه خاصَّةً أم لِكلِّنا؟ قال: بلْ لِكلِّكُم).
6 ـ عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما مِن عبد تصيبه مصيبة فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها (اجعَلْ لي خَلفًا ممَّا فاتَ عَنِّي في هَذه المُصيبَةِ خيْرًا مِن الفائتِ فِيها)، إلا آجره الله تعالى في مصيبته، وأخلف له خيرا منها، قالت: فلما مات أبو سلمة (زوجها) قلتُ: أي المسلمين خير من أبي سلمة (حبا واستِعظامًا لأبي سَلمَةَ عَلى زَعمِها وفي ظَنِّها)؟ أول بيت هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم إني قلتُها (كَلمةَ الِاسترجاعِ والدُّعاءَ المَذكور)، فأخلف الله لي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم (جَعلَها الله زَوجة للنبي صلى الله عليه وسلم)) رواه مسلم. وقال صلى الله عليه وسلم: (عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له) رواه مسلم.
ومِن تسلية المُصاب عند فقد أحَدٍ من الأهل والأحباب: تذكر المصيبة العظيمة بموت النبي صلى الله عليه وسلم، فكل مصيبة دون مصيبتنا بموته تهون، فبموته صلوات الله وسلامه عليه انقطع الوحي من السماء إلى يوم القيامة، وبموته انقطعت النبوّات، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك فقال: (يا أيها الناس: أيما أحد من الناس ـ أو من المؤمنين ـ أصيب بمصيبة، فليتعَزَّ بمصيبتِهِ بي عنِ المصيبة التي تصيبه بغيري، فإن أحدا من أمتي لن يُصابَ بمصيبة بعدي أشدَّ علَيه من مُصيبَتي) رواه ابن ماجه. قال السندي: "(فليتعزّ) يخفِّف على نفسه مؤونة تلك المصيبة بتذكّر هذه المصيبة العظيمة، إذ الصّغيرة تضمحلّ في جنب الكبيرة، فحيث صبر على الكبيرة لا ينبغي أن يبالي بالصّغيرة ".
اصْبِرْ لِكُلِّ مُصِيبَةٍ وَتَجَلَّدِ وَاعْلَمْ بِأَنَّ الْمَرْءَ غَيْرُ مُخَلَّدِ
وَإِذَا ذَكَرْتَ مُصِيبَةً تَسْلُو بِهَا فَاذْكُرْ مُصَابَكَ بِالنَّبِيِّ مُحَمَّدِ
إن المتأمل في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وحياته، يرى أنه صلى الله عليه وسلم مع علو قدْره ومنزلته قد أصابه مثل ما يصيب الناس من المرض، والجوع، وفراق الكثير من الأهل والأصحاب والأحباب بالموت، فصبَرَ صبراً جميلا، وهو الصبر الذي لا تسخط ولا نياحة فيه، ولا شكوى ولا جزع، ولا اعتراض على قضاء الله وقدره، فكان مثالا عمليا في صبره ورضاه، وفي ذلك تسلية للمصاب بفقد أحدٍ من الأهل والأصحاب والأحباب، قال الله تعالى: { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً}(الأحزاب:21). قال ابن كثير: "هذه الآية أصل كبير في التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله وأحواله، ولهذا أُمِرَ الناسُ بالتأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب في صبره ومصابرته، ومرابطته ومجاهدته، وانتظاره الفرج من ربه عز وجل".