الاسْتِشْرَاق اتجاه فكري يعنى بدراسة حضارة الأمم الشرقية بصفة عامة وحضارة الإسلام والعرب بصفة خاصة، والمستشرقون هم علماء من الغرب اعتنوا بدراسة الإسلام واللغة العربية.. ولم يغِبْ عن هؤلاء المستشرقين ـ في دراساتهم وكتبهم ـ أهمية السيرة النبوية، فقد علموا أنها مصدر رئيسي مِن مصادر التشريع الإسلامي، لأنها تشمل حياة النبي صلى الله عليه وسلم وأحاديثه ومواقفه، وسلمه وحربه ومعاهداته، ولذا تناولوها بالطعن والتشويه وإلقاء الشُبَه عليها، ليتسنَّى لهم الطعن في القرآن الكريم والسنة النبوية وهدم صرح الإسلام.. والدراسة والكتابة لسيرة النبي صلى الله عليه وسلم مِن منظار المستشرقين تدور وِفْق حالتين تجعلان من الصعب جدا أن تحقق فهْما مُنْصِفاً وصحيحاً للسيرة النبوية. فالمستشرق بين أن يكون علمانيا ماديا، لا يؤمن بالغيب، وبين أن يكون يهودياً أو نصرانياً لا يؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم، ومهما أعمل المستشرق قدراته العقلية واجتهد في تحليلاته المنطقية فإنه لن يصل أبدا إلى تقديم سيرة النبي صلى الله عليه وسلم بصورة حيادية وصحيحة، وهذا هو الغالب في كتابات وكتب المستشرقين عن السيرة النبوية الشريفة.
المستشرقون من أصحاب المنهج المادي:
المستشرق مِن أصحاب المنهج المادي الذي لا يؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم سيسعى منذ البداية إلى تأويل أو تفسير ظاهرة الوحي وما ينتج عنها ـ القرآن الكريم ـ بما يخضع للمقاييس المادية التي يتبناها، ومِن ثم فسينكر ابتداء قضية الوحي، ويفتري ويزعم بأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان مصابًا ببعض الأمراض النَّفسية التي أثَّرت عليه تأثيرًا بالغًا، ومِن هؤلاء المستشرق الأمريكي "واشنطن إرفنج"، والمستشرق الفرنسي "هنري ماسيه" وغيرهما. ويحاول البعض الآخر تفسير أحداث السيرة النبوية تفسيرًا ماديًا وفق أسس التحليل النفسي لفرويد وغيره، فيصفون الإسراء والمعراج بسياحة الروح في عالم الرؤى، ويفسرون الملائكة الذين أمد الله بهم المسلمين في غزوة بدر بالدعم المعنوي، ووصف الطير الأبابيل بداء ومرض الجُدري وغيره، وأنَّ لقاء جبريل بالنبي صلى الله عليه وسلم في غار حراء كان مناماً، إلى غير ذلك من تفسيراتهم وأقوالهم الفاسدة والباطلة، وهكذا يُفَرِّغون سيرة النبي صلى الله عليه وسلم من الحقائق والأمور الغيبية والمعجزات التي اختص الله عز وجل بها نبيه صلى الله عليه وسلم، والتي تتنافى ـ في زعمهم ومعتقداتهم ـ مع حقائق العلم وموازينه التي يدَّعون أنهم يسيرون على وفْقها.. ثم إنهم يتعاملون مع سيرة النبي صلى الله عليه وسلم على أنها سيرة إنسان مُصلِح، أو زعيم، أو بطل، أو قائد، فيتحدثون عن النبي صلى الله عليه وسلم كما يتحدثون عن هؤلاء، فيصفونه بالبطولة والعبقرية والزعامة أو نحو ذلك من الألقاب التي لا تُغْنِي عن مقام النبوة، فيتحدثون عن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم حديثاً مادياً دون ربط لها بالوحي والغيب والتأييد الإلهي..
المستشرقون من اليهود والنصارى:
إن كان المستشرق ـ الذي يكتب عن السيرة النبوية ـ يهودياً أو نصرانياً فهو ابتداءً سينحاز إلى اليهود والنصارى، لأنه لا يؤمن بالإسلام ولا بنبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، بل وأحيانا بعضهم ـ أمثال وات (مستشرق انجليزي)، وفلهاوزن (مستشرق ألماني)، وميشيل بودييه (متشرق فرنسي) ـ يتهمون النبيَّ صلى الله عليه وسلم أنه كان يستلهم ما يدعو إليه من اليهودية أو النصرانية.. ومع ذلك لم تخل كتابات بعض المستشرقين من بعض الإنصاف وإن لم يؤمنوا ويعترفوا بنبوة نبينا صلى الله عليه وسلم، فهم يعتبرونه من أعظم الرجال الذين ظهروا في التاريخ، ومن نماذج ذلك: المستشرق الفرنسي "كلود إتيان سافاري" الذي وصف النبيَّ صلى الله عليه وسلم في "مقدمة ترجمته للقرآن" بالعظمة، وأكَّد أنَّ محمدًا صلى الله عليه وسلم أسَّس دينًا عالميًا، يقوم على عقيدة بسيطة لا تتضمن إلاَّ ما يُقرُّه العقل من إيمانٍ بالإله الواحد الذي يُكافئ على الفضيلة ويعاقب على الرذيلة. والمستشرق الانجليزي "توماس كارلايل" حيث يقول: "الرسالة التي أدَّاها ذلك الرجل ما زالت السراج المنير مدة اثني عشر قرنًا لمئات الملايين من الناس أمثالنا، خلقهم الله الذي خلقنا.. ما كان محمدٌ أخا شهواتٍ برغم ما اتُّهِم به ظلمًا وعدوانًا". والخطورة تكتنف هذا الكلام ـ وإن كان يمدح ويثني على النبي صلى الله عليه وسلم ـ من جهة قطعه لسيرة النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلة بالله عز وجل، وعن الإيمان بالغيب .
لقد كَتَبَ وألّف في السيرة النبوية الكثير مِنَ المستشرقين مِن اليهود والنصارى، ومِن هؤلاء مَنْ كان مُنْصِفاً - وقليل ما هم -، وأما الكثير والغالب منهم كانوا غير منصفين، ولا عجب فإنهم لا يؤمنون بالنبي صلى الله عليه وسلم، بل ويحملون في نفوسهم الحقد على الإسلام ونبي الإسلام، ولن يرضوا إلا أن نكون مِن أتباع دينهم، قال الله تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ اليَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ}(البقرة:120). قال ابن كثير: قال ابن جرير: يَعْنِي بِقَوْلِه جَلَّ ثَنَاؤُه: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} وَلَيْسَتِ الْيَهُود - يا مُحَمَّد - ولَا النَّصارى بِرَاضِيَةٍ عَنْك أَبَدًا.. وَقَدِ اسْتَدَلَّ كَثِيرٌ مِنَ الْفُقهاء بقوله: {حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} حَيْثُ أَفْرَدَ الْمِلَّة على أنَّ الْكُفْر كُلَّه مِلَّةٌ واحِدَة كقوله تعالى: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}(الكافرون:6)". والمستشرقون في كتبهم وكتاباتهم لا يجدون ثغرة ـ في ظاهرها ـ ينفثون منها أحقادهم وسمومهم إلا حاولوا الدخول منها، ولا رواية ضعيفة أو مُنْكَرة أو مُختَلَقَة إلا طاروا بها، ولا حرج عندهم لو زيفوا فصحَّحوا الضعيف أو ضعَّفوا الصحيح، ما دام ذلك يساعدهم على باطلهم وأهوائهم ونفث سمومهم والتشكيك في سيرة نبينا صلوات الله وسلامه عليه، وهذا المنهج يسلكه أغلب المستشرقين ومَن شاكَلهم مِن بعض الكُتَّاب والمفكرين المنتسبين للإسلام..
والقرآن الكريم يُثبِتُ يقينًا لا شك فيه، أنَّ افتراءات المستشرقين وشبهاتهم المتعددة على النبي صلى الله عليه وسلم ـ مثل: (تأثره بالأحبار من اليهود والرهبان من النصارى والكتب السابقة، وأنه شاعر، ساحر، كاذب، مجنون..) ـ شبهات وافتراءات باطلة واهية، وليست بالحَدَث الجديد، وإنما هي مضاهاة لأقوالِ لأناسٍ سابقين لهم، على عهد البعثة والنبوة، وقد ردَّ القرآن الكريم هذه الافتراءات وردَّ على أصحابها وأبطل حُجَجَهم، قال الله تعالى: {بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ بَلْ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ}(الأنبياء:5)، وقال تعالى: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا * قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا * وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا * أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا * انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا}(الفرقان:9:4). قال ابن كثير: "{وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا} يَعْنُونَ: كُتُبَ الْأَوَائِلِ اسْتَنْسَخَها، {فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ} أيْ: تُقْرَأ عليه {بُكْرَةً وَأَصِيلا} أَيْ: في أَوَّل النَّهَار وَآخِرِه. وهذا الكلام - لسَخَافَتِه وكَذِبِه وبهْته مِنْهُمْ - كُلّ أَحَدٍ يَعْلَم بُطْلَانه، فَإِنَّه قَدْ عُلم بِالتَّوَاتُرِ وَبِالضَّرورة: أَنَّ مُحَمَّدًا رسول اللَّه لَمْ يَكُنْ يُعَانِي شَيْئًا مِنَ الْكِتَابة (كان صلى الله عليه وسلم لا يقرأ ولا يكتب)، لَا في أَوَّلِ عُمُرِه ولا في آخِرِه، وَقَدْ نَشَأ بَيْن أَظْهُرِهِمْ مِنْ أَوَّل مَوْلِده إلى أَنْ بَعَثَه اللَّه نَحْوًا مِنْ أَرْبَعِين سَنة، وهم يَعْرِفُون مُدْخَله وَمُخْرَجه، وَصِدْقَه، وَبِرَّه وأَمَانَته وَنَزَاهَته مِنَ الْكَذِب وَالْفُجُور وَسَائر الْأَخْلَاق الرَّذِيلة، حَتَّى إِنَّهُمْ لَمْ يكونوا يُسَمُّونه فِي صِغَرِه إلى أَنْ بُعِث إِلَّا الْأَمِين، لِمَا يعْلمون مِنْ صِدْقِه وَبِرِّه. فَلَمَّا أَكْرَمه اللَّه بِمَا أَكْرَمَه بِهِ، نَصَبوا له الْعَدَاوة، وَرَموه بِهَذِه الْأَقْوال الَّتِي يَعْلَم كُلُّ عَاقِلٍ بَرَاءَته مِنها، وحاروا مَاذَا يَقْذِفُونه بِهِ، فَتَارَةً مِنْ إِفْكِهِمْ يَقولون: سَاحِر، وَتَارَةً يَقُولُون: شَاعِر، وَتَارَةً يقولون: مَجْنُون، وَتَارَةً يقولون: كَذَّاب، قال الله تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلا}(الإسراء:48)".
ومع هذه الافتراءات على النبي صلى الله عليه وسلم ـ قديما وحديثا ـ مِن المستشرقين وغيرهم، فقد حفلت السيرة النبوية بالأخبار والأمثلة الدالة على عِلم أهل الكتاب بنبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وعِلم أحبارهم ورهبانهم بصفاته وعلاماته.. وقد أكد القرآن الكريم على وجود أمارات وصفات نبينا صلى الله عليه وسلم في كتب اليهود والنصارى قبل تحريفها، فقال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ}(الأعراف:157)، وقال تعالى: {الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}(البقرة:146).. قال السعدي: "يخبر تعالى: أن أهل الكتاب قد تقرر عندهم، وعرفوا أن محمدا رسول الله، وأن ما جاء به، حق وصدق، وتيقنوا ذلك، كما تيقنوا أبناءهم بحيث لا يشتبهون عليهم بغيرهم، فمعرفتهم بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم، وصلت إلى حد لا يشكون فيه ولا يمترون، ولكن فريقا منهم - وهم أكثرهم - الذين كفروا به، كتموا هذه الشهادة مع تيقنها، وهم يعلمون {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ}(البقرة:140) وفي ضمن ذلك، تسلية للرسول والمؤمنين، وتحذير له من شرهم وشبههم، وفريق منهم لم يكتموا الحق وهم يعلمون، فمنهم مَن آمن به ومنهم مَن كفر به". وقال تعالى: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ}(الأنعام:33). قال القاضي أبو بكر بن العربي: "فالمعنى بأنهم لا يردون ما جئتَ به عن حقيقة في نفوسهم، فقد علموا أن الذي جئتَ به حق، ولكنهم يظهرون الرد حسداً، ويكون تقدير الكلام: فإنهم لا يكذبونك بحقيقة يجدونها في أنفسهم من تكذيبك، ولكن الظالمين يجحدون بآيات الله، وقد استيقنوها ظلماً وعلواً"..
لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم مجرد عبقري سمت به عبقريته بين قومه، ولكنه قبل ذلك رسول أيّده الله عز وجل بوحي من عنده، قال الله تعالى عنه: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}(النجم:4:3)، وقد أُوتِيَ صلى الله عليه وسلم الحظ الأوفر والنصيب الأكبر من جمال الصُّورة ، وتمام الخِلقة، وحُسن الهيئة، وما جُبل عليه من حسن الخُلُق، والرِّفق في المعاملة، والعدل في الغضب والرِّضا، ولا عجب فقد زكَّاه الله تعالى بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}(القلم:4)..