الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه ومن اهتدى بهديه وسار على نهجه إلى يوم الدين، وبعد:
فمما لا شك فيه أن الإنسان قد حُبب إليه المال كما قال الله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ..}(آل عمران: 14). وكما قال سبحانه مخبرا عن جنس الإنسان ومحبته للمال: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ}(العاديات:8).
وقد أمر الله تعالى عباده المؤمنين بأداء حق الله تعالى في هذا المال، فأمرهم أولا بكسبه من حلال وإنفاقه في حلال، وأوجب على من بلغ ماله النصاب وحال عليه الحول أن يخرج زكاته طيبة بها نفسه، فقد ورد في كثير من الآيات الأمر بأداء الزكاة كما في قوله تعالى: {وَآتُوا الزَّكَاةَ..}(البقرة:43).
وحث الإسلام على الإنفاق في أوجه الخير، وبَشَّر المُنْفقين بالأجر والثواب الجزيل، حيث ورد في القرآن الكريم الكثير من الآيات التي تحث على الإنفاق منها قوله تعالى: {لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ}(آل عمران:92)، وقوله تعالى: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}(البقرة:274).
وبيَّن الله لعباده أنهم مستخلفون في هذا المال، وحثهم على الإنفاق منه فقال: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ}(الحديد:7).
وكل ما أنفقه العبد في وجوه الخير طلبا لرضا الله تعالى فإن الله تعالى يخلفه على صاحبه وينميه له ويعود خيره عليه: {وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ..}(البقرة:272). أي نفعه راجع إليكم.
التحذير من الاكتناز:
إن كل مال وجبت فيه الزكاة فلم تُؤَد زكاته فهو كنز ينطبق على صاحبه وعيد شديد؛ فحين بيَّن الله تعالى أن جنس الإنسان محب للمال وغالبا ما يكون حريصا على اكتسابه، وحين أوجب الله تعالى على المؤمنين مقدارا محددا من المال هو حق للفقير والمسكين وابن السبيل وغيرهم، فإن الله تعالى قد حذر المؤمنين أشد التحذير من تضييع هذه الفريضة بُخلا بالمال واكتنازا له، فقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ. يَوْمَ يُحْمَىٰ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَٰذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ}(التوبة: 34-35).
قال العلامة ابن كثير- رحمه الله تعالى- في تفسيرها: "أي يقال لهم هذا الكلام تبكيتا وتقريعا وتهكّما كما في قوله تعالى: {ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ* ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ}(الدخان/ 48- 49)، أي هذا بذاك، وهذا الّذي كنتم تكنزون لأنفسكم، ولهذا يقال: مَن أحبّ شيئا وقدّمه على طاعة الله عُذّب به، وهؤلاء لمّا كان جمع هذه الأموال آثر عندهم من رضا الله عنهم عُذّبوا بها، كما أنّ هذه الأموال لمّا كانت أعزّ الأموال على أربابها كانت أشرّ الأشياء عليهم في الدّار الآخرة فيحمى عليها في نار جهنّم، وناهيك بحرّها فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم".
كما ورد الوعيد الشديد في حق مانع الزكاة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعن جابر بن عبد الله- رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: (ما من صاحب إبل لا يفعل فيها حقّها إلّا جاءت يوم القيامة أكثر ما كانت قطّ وقعد لها بقاع قرقر (القرقر هو المكان المتسع المستوي)، تستنّ عليه بقوائمها وأخفافها (أي: تضربه بيديها)، ولا صاحب بقر لا يفعل فيها حقّها، إلّا جاءت يوم القيامة أكثر ما كانت، وقعد لها بقاع قرقر تنطحه بقرونها وتطؤه بقوائمها، ولا صاحب غنم لا يفعل فيها حقّها، إلّا جاءت يوم القيامة أكثر ما كانت وقعد لها بقاع قرقر، تنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها، ليس فيها جمّاء (هي الشاة التي لا قرن لها) ولا منكسر قرنها، ولا صاحب كنز لا يفعل فيه حقّه، إلّا جاء كنزه يوم القيامة شجاعا أقرع (الحية الذكر)، يتبعه فاتحا فاه، فإذا أتاه فرّ منه، فيناديه: خذ كنزك الّذي خبأته فأنا عنه غنيّ. فإذا رأى أن لا بدّ منه سلك يده (أدخلها) في فيه فيقضمها قضم الفحل)(صحيح الجامع).
ودخل الحسن البصريّ على عبد الله بن الأدهم يعوده في مرضه، فرآه يُصوِّب بصره في صندوق في بيته ويُصَعِّده، ثمّ قال: أبا سعيد، ما تقول في مائة ألف في هذا الصّندوق، لم أؤدّ منها زكاة، ولم أصل منها رحما؟ قال: ثكلتك أمّك، ولمن كنت تجمعها؟ قال: لروعة الزّمان، وجفوة السّلطان، ومكاثرة العشيرة. ثمّ مات، فشهده الحسن فلمّا فرغ من دفنه. قال: (انظروا إلى هذا المسكين، أتاه شيطانه فحذّره رَوعَةَ زمانه، وجفوة سلطانه، ومُكَاثرة عشيرته، عمّا رزقه الله إيّاه وغمره فيه، انظروا كيف خرج منها مسلوبا محروبا؟!. ثمّ التفت إلى الوارث فقال: أيّها الوارث لا تُخدَعَنّ كما خُدع صويحبك بالأمس، أتاك هذا المال حلالا فلا يكوننّ عليك وبالا، أتاك عفوا صفوا ممّن كان له جَمُوعا مَنوعا، من باطل جمعه، ومن حقّ منعه، قطع فيه لجج البحار، ومفاوز القفار، لم تكدح فيه بيمين، ولم يعرق لك فيه جبين. إنّ يوم القيامة يوم ذو حسرات، وإنّ من أعظم الحسرات غدا أن ترى مالك في ميزان غيرك، فيالها عثرة لا تُقال، وتوبة لا تُنال).
بين الادخار والاكتناز:
إن الفرق الواضح بين الادخار المشروع والاكتناز الممنوع يكمن في أداء الزكاة، فإن الكنز المحرم المتوعد عليه في آية التوبة وبعض الأحاديث المراد به ما لم تؤد زكاته، أما ما أديت زكاته فليس بكنز سواء كثر أم قلَّ، كما قال ابن عمر وغيره: وما أديت زكاته ليس بكنز وإن كثر، وإن كان تحت سبع أرضين. ذكره ابن كثير في تفسيره.
ومجرد الادخار للحاجة ليس بمذموم في الشرع، ففي الصحيحين من حديث سعد بن أبي وقاص، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير لك من أن تذرهم عالة يتكففون الناس، وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت بها، حتى ما تجعل في في امرأتك).
الشُّح سبب الاكتناز:
إن الدافع الرئيس للاكتناز على الوجه المبين سابقا هو شُح النفوس؛ هذا الشح الذي لا يجتمع مع الإيمان الصادق، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يجتمعُ غبارٌ في سبيلِ اللهِ ودُخَانُ جهنَّمَ في جوفِ عبدٍ، ولا يجتمِعُ الشُّحُّ والإيمانُ في قلبِ عبدٍ أبدًا)(صحيح النسائي).
ولأن الشح داء عضال وعواقبه وخيمة فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه فقال: (اتَّقُوا الظُّلْمَ، فإنَّ الظُّلْمَ ظُلُماتٌ يَومَ القِيامَةِ، واتَّقُوا الشُّحَّ، فإنَّ الشُّحَّ أهْلَكَ مَن كانَ قَبْلَكُمْ، حَمَلَهُمْ علَى أنْ سَفَكُوا دِماءَهُمْ واسْتَحَلُّوا مَحارِمَهُمْ)(رواه مسلم).
إن الشُّحَّ هو البُخْلُ بِأداءِ الحقوقِ والواجباتِ الماليَّةِ، مع الحرصِ على ما ليْس له، هو نوعٌ مِن الظُّلمِ، وقد كان من عواقبه أنَّه أهلكَ مَن كان قبْلَنا مِن الأُممِ؛ فَداؤُه قديمٌ وبَلاؤُه عظيمٌ، فقدْ حَمَلَهم الشُّحُّ والحِرصُ على الدُّنيا على أنْ سفَكُوا دِماءَ بعضٍ، وحَمَلهم الشُّحُّ أيضًا على أنِ استحَلُّوا مَحارِمَهم، وروى أبو داودَ عن عبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو رَضيَ اللهُ عنهما قال: خَطَب رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقال: (إيَّاكم والشُّحَّ؛ فإنَّما هَلَكَ مَن كان قبْلَكم بالشُّحِّ؛ أمَرَهم بالبُخلِ فبَخِلوا، وأمَرَهم بالقَطيعةِ فقَطَعوا، وأمَرَهم بالفُجورِ ففَجَروا)(رواه أبو داود).
فالشُّحُّ أصْلُ المَعاصي؛ ولذا قال تعالَى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(الحشر: 9).
وقيل: إنَّما كان الشُّحُّ سببًا لِذلكَ؛ لأنَّ في بذْلِ المالِ ومُواساةِ الإخوانِ التَّحابَّ والتَّواصلَ، وفي الإمساكِ والشُّحِ التَّهاجُرَ والتَّقاطُعَ، وذلك يُؤدِّي إلى التَّشاجُرِ والتَّعادِي مِن سفْكِ الدِّماءِ واستباحةِ المحارمِ مِنَ الفُروجِ والأعراضِ والأموالِ وغيرِها.
لقد حذر الشرع من الاكتناز ودعا إلى النفقة ومراعاة حق الله تعالى في المال ومَدَح القائمين بمراعاة هذا الحق فقال تعالى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ . لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ}(المعارج: 4-25)، وقال تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ . فَكُّ رَقَبَةٍ . أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ . يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ . أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ}(البلد:12-16).
والعجيب أن العبد سيترك مالَه كله، لكنه سيُسأل عنه كله، نسأل الله العافية والنجاة {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ . إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}(الشعراء:88، 89).