لكل أمة من الأمم تقويمُها الخاص الذي تعتزّ به، والذي يعتبر جزءاً أصيلاً من هويتها وثقافتها وشخصيتها، ودينها أيضاً؛ فهناك التقويم الجريجوري (الميلادي)، والتقويم الهجري، والتقويم الروماني، والتقويم القبطي، والتقويم الفارسي، والتقويم الصيني، والتقويم الإغريقي...إلخ.
ولا شك أن المعتقدات الدينية للأمم الموجودة اليوم على وجه الأرض أسهمت بشكلٍ كبير في نشأة التقاويم المعمول بها من قِبَل هذه الأمم؛ حيث ترمز بداية التقاويم إلى أحداث دينيّة عظيمة أثرت ولا تزال تؤثّر في حياة الشعوب.
إن الأمة المسلمة كباقي الأمم، لها تقويمها الخاص الذي يعود بها إلى ذكرى مهمّة، غيرت وجه الأرض، وأثرت في الإنسانية إلى آخر الدهر، والقصة أن التقويم الهجري الإسلامي يرمز إلى الهجرة النبوية الشريفة من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة؛ حيث أسّس رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ومن كان معه من المسلمين الصادقين نواة الدولة الإسلامية التي ما لبثت أن صارت قوّةً عالميّةً عظمى تقف نداً لند، بل وتتفوق على أقوى قوتين عالميتين في ذلك الوقت وهما: الفرس، والروم، وصارت الأمة عزيزة الجانب مرهوبة، وأصبح العالم يعمل للأمة ألف حساب.
بداية التقويم الهجري:
كانت العرب تؤرخ للسنوات بالأحداث الكبيرة، فتقول: عام الفيل، عام الطاعون (طاعون عمواس)، وعام الرمادة..
حتى خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقد كتب إليه أبو موسى الأشعري رضي الله عنه إنه يأتينا منك كتب ليس لها تاريخ، فجمع عمر الصحابة رضي الله عنهم فاستشارهم، فذُكر أن بعضهم قال: أرخوا كما تؤرخ الفرس بملوكها كلما هلك ملك أرخوا بولاية من بعده، فكره الصحابة ذلك. وقال آخرون: أرخوا كما تؤرخ الروم، ولكنهم كرهوا ذلك أيضًا؛ فكره الصحابة رضي الله عنهم أن يوافقوا هؤلاء وهؤلاء، ثم قال بعضهم: أرخوا من مولد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وقال آخرون: أرخوا من مبعث الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال قوم آخرون: أرخوا من مهاجر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فقال عمر رضي الله عنه: الهجرة فرقت بين الحق والباطل؛ فأرخوا منها.. فأرخوا من الهجرة، واتفقوا على ذلك أن تكون أول السنوات الإسلامية هي السنة الأولى من الهجرة، واتفقوا على ذلك، ولكنهم تشاوروا من أي شهر يكون ابتداء السنة؟ فقال بعضهم: من رمضان؛ لأنه الشهر الذي أنزل فيه القرآن، وقال آخرون: من ربيع الأول؛ لأنه الشهر الذي قدم فيه النبي صلى الله عليه وعلى وسلم فيه المدينة مهاجرًا، ولكن عمر وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم وهم الخلفاء الثلاثة أفضل الأمة بعد أبي بكر رضي الله عنه اتفقوا على أن يكون ابتداء السنة من المحرم؛ لأنه شهر حرام يلي شهر ذي الحجة الذي يؤدي المسلمون فيه حجهم، الذي به تمام أركان دينهم، والذي كان فيه بيعة الأنصار للنبي صلى الله عليه وسلم والعزيمة على الهجرة، فكان ابتداء السنة الإسلامية الهجرية من شهر المحرم.
علاقة التقويم الهجري بالعبادات:
مما لا شك فيه أن هناك علاقة وثيقة بين بعض العبادات وبين التاريخ الهجري، ومن أمثلة ذلك:
– الزكاة: فحول الزكاة في الأموال، والسائبة من بهيمة الأنعام، وعروض التجارة وغيرها، هو سنة هجرية كاملة .
- الصوم: هذا الركن العظيم من أركان الإسلام الذي أوجب الله تعالى أن يؤديه المسلمون في شهر رمضان، وهو الشهر التاسع من أشهر السنة الهجرية القمرية.
- الحج: وفريضة الحج هي الركن الخامس من أركان الإسلام، ويؤديه المسلمون في شهر ذي الحجة، وهو الشهر الثاني عشر من أشهر السنة الهجرية القمرية.
- وهناك كثير من العبادات في ديننا مرتبطة بالتاريخ الهجري، كالعدة (عدة المطلقة أو المتوفى عنها زوجها) والرضاع، والظهار، وسِنُّ الأضحية، وكذلك الكفارات، ككفارة القتل الخطأ، وهناك السنن التطوعية كصيام ستة أيام من شوال، صيام الأيام البيض، وصيام يوم عاشوراء، وغيرها من العبادات، والمعاملات المرتبط قضاؤها وأداؤها بالتقويم الهجري.
ماضينا والتاريخ الهجري:
إن للتاريخ الهجري علاقةً وثيقة بتاريخنا ومناسباتنا والأحداث العظام التي مرت بها الأمة على مدى العقود المتعاقبة، وإذا نسي المسلمون أو أهملوا هذا التاريخ فقد أهملوا تاريخهم وتلك المحطات الخالدة في ذاكرة التاريخ الهجري، ومن نسي ماضيه فلا حاضر له ولا مستقبل.
إن الغزوات الكبرى والمعارك التي سطر المسلمون فيها أروع صفحات البطولة والتضحية ارتبطت في الترايخ بهذه الشهور الهجرية، وإذا سألت مسلما متى كانت غزوة بدر مثلا؟ سيقول كانت في رمضان من السنة الثانية للهجرة، وكذلك بقية المناسبات والأحداث العظيمة، فإذا تركنا هذا التاريخ كما هو واقع كثير من أبناء الأمة اليوم فقد محونا من الذاكرة هذه الصفحات العظيمة، وهل يفعل ذلك عاقل؟!.
إنك تحزن أشد الحزن حين ترى كثيرا من أبناء المسلمين إذا طلب منه تعداد الأشهر وفق التقويم الميلادي الذي لا علاقة للمسلمين به فهو يسردها دون تلعثم، وإذا طلب منه تعداد الأشهر وفق التقويم الهجري تلعثم وتعثر وتعرق ولم يكمل ثلاثة منها مرتبة، فضلا عن معرفته بها كاملة.
أخيرا يقول العلامة ابن عثيمين رحمه الله تعالى: إن التاريخ وإن التقويم شعار الأمة، فإذا تناست الأمة هذا الشعار، فهو تناسٍ لشخصيتها ومقوماتها التاريخية.