مِنْ أعظم وأشد أهوال يوم القيامة التي يجب الإيمان بها والاستعداد لها موقف الحشر، حيث يجمع الله عز وجل الخلائق جميعا إلى مكان الحساب الذي فيه يحاسبون، ويعرف كل إنسان مصيره، قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآَخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ}(الواقعة:50:49). قال الطبري: "يقول الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد لهؤلاء إن الأوّلين مِنْ آبائكم والآخرين منكم ومِن غيركم، لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم، وذلك يوم القيامة". وقال الله تعالى: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ}(الأنبياء:104)، قال ابن كثير: "يعني: هذا كائن لا محالة، يوم يُعيد الله الخلائق خلقاً جديدا، كما بدأهم هو القادر على إعادتهم، وذلك واجب الوقوع، لأنه من جملة وعد الله الذي لا يُخْلَف ولا يُبَدَّل، وهو القادر على ذلك".
والحَشْر يوم القيامة يأتي بعد البعث، فالناس يُبعَثون أولا، ثم يُحْشَرون. والحشر لغة: الجمع. وشرعا واصطلاحا: جمْع الخلائق يوم القيامة لحسابهم والقضاء بينهم. قال الأزهري في "تهذيب اللغة" نقلاً عن الليث: الحشر: حشر يوم القيامة". ثم ذكر أن مِن معانيه وروده بمعنى الجَمْع الذي يُحْشَر إليه القوم. وقال ابن حجر في "فتح الباري" في بيان معنى الحشر: أنه "حشر الأموات من قبورهم وغيرها بعد البعث جميعاً إلى الموقف، قال الله عز وجل: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا}(الكهف:47)". وقال السفاريني الحنبلي في "لوامع الأنوار البهية": "الحشر في اللغة الجَمْع، تقول حشرْتُ الناسَ إذا جمعتُهم، والمراد به جمع أجزاء الإنسان بعد التفرقة ثم إحياء الأبدان بعد موتها. واعلم أنه يجب الجزم شرعا أن الله تعالى يبعث جميع العباد ويعيدهم بعد إيجادهم بجميع أجزائهم الأصلية، وهي التي من شأنها البقاء من أول العمر إلى آخره، ويسوقهم إلى محشرهم لفصل القضاء، فإن هذا حق ثابت بالكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة". وقال الشيخ ابن عثيمين: "والحشر لغة: الجَمْع، وشرعًا: جمع الخلائق يوم القيامة لحسابهم والقضاء بينهم.. والبعث والحشر حق ثابت بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين".
الإيمان بالبعث والحَشْر والجزاء مِنْ أصول الإيمان، فإنَّ الله تعالى يجمَع بقُدرته ما تفرَّق من أجساد الأموات ثم يعيد الأرواح إليها، ويعيدها كما كانت، ثم يشقُّ الأرضَ عنها، ثم يسوقُها إلى المَحْشر كما بدأهم أول خلْقهم حفاة عُراة، للقضاء بينهم بالحق، ومحاسبتهم ومجازاتهم على أعمالهم..
ـ عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يُحْشَرُ النَّاسُ يَوم القِيامَةِ حُفاةً عُراةً غُرْلًا. قُلتُ (أي عائشة): يا رسول الله، النِّساءُ والرِّجالُ جَمِيعًا يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ؟ قال صلى الله عليه وسلم: يا عائِشَة، الأمْرُ أشَدُّ مِن أنْ يَنْظُرَ بَعْضُهُمْ إلى بَعْض) رواه مسلم. وفي رواية أخرى أن عائشة رضي الله عنها قالت: (يا رسولَ الله، واسوءتاه إنَّ الرجالَ والنساءَ يُحشرونَ جميعًا، ينظرُ بعضُهم إلى سوءةِ بعضٍ؟! فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: لكلِّ امرئٍ منهم يومئذٍ شأنٌ يُغْنِيِه، لا ينظرُ الرجالُ إلى النساءِ، ولا النساءُ إلى الرجالِ، شُغِلَ بعضُهم عن بعض).
ـ وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال: (سَمِعْتُ رَسولَ الله صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ على المِنْبَرِ، يقول: إنكم مُلَاقُو اللَّه حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا) رواه البخاري.
قال الكرماني: "(الحفاة) جمع الحافي بإهمال الحاء و(الغُرْل) بضم المعجمة وسكون الراء وهو جمع الأغرل وهو الأقلف الذي لم يختن وبقيت معه غرلته، والغرلة ما يقطعه الختان مِنْ ذَكَر الصبي وهي القلفة. المقصود أنهم يُحشرون كما خُلِقوا".
وقال العيني: "قوله: (إنكم محشورون) جمع محشور من الحشر، وهو الجمع.. قوله: (حفاة) جمع حاف وهو خلاف الناعل.. قوله: (عراة) جمع عار من الثياب. قوله: (غُرلا) بضم الغين جمع: أغرل، وهو الأقلف، وهو الذي لم يختن، وبقيت معه غرلته، وهي قلفته، وهي الجلدة التي لم تقطع في الختان.. وقيل: كما بدأناهم في بطون أمهاتهم حفاة عراة غرلا، كذلك نعيدهم يوم القيامة نظيرها".
وقال الشيخ ابن عثيمين: "(حُفاة): ليس عليهم نعال، ولا خفاف، ولا يقوون به أرجلهم. (عُراة): ليس عليهم كسوة، بادية أبشارهم. (غُرْلاً): يعني غير مختونين.. يعني: أن الله يحشرهم كما بدأهم أول خلق، يخرجون من بطون الأرض كما خرجوا من بطون أمهاتهم، حفاة عراة غرلاً.. حدَّث النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث، فقالت عائشة رضى الله عنها: (واسوءتاه! الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا عائشة، الأمر أعظم من أن يهمهم ذلك).
الأمر عظيم، لا ينظر أحد لأحد {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}(عبس:37:34)، حتى الرسل ـ عليهم الصلاة والسلام ـ عند عبور الصراط فدعاؤهم: اللهم سَلِّم، اللهم سَلِّم، لا يدري أحد أينجو أم لا.
ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: (الأمر أعظم من أن يهمهم ذلك)". وقال الهروي: "فقال صلى الله عليه وسلم: (يا عائشة! الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض) أي: أمر القيامة أصعب من أن يقدر أحد على النظر إلى غيره عمدا أو سهوا، لقوله تعالى: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}(عبس:37)".
إن شأنَ المُوقِفِ والحَشْرِ بَعْدَ البَعْثِ مِن الموتِ فيه من الأهوالِ ما يَأخُذ اهْتِمام النَّاس وأَبْصارهم عن النَّظر إلى العَوْرات، ومنْها ما قال الله تعالى: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ}(الحج:2)، قال السعدي: "{يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ} مع أنها مجبولة على شدة محبتها لولدها.. {وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا} من شدة الفزع والهول، {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى} أي: تحسبهم - أيها الرائي لهم - سكارى من الخمر، وليسوا سكارى. {وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} فلذلك أذهب عقولهم، وفرغ قلوبهم، وملأها من الفزع، وبلغت القلوب الحناجر، وشخصت الأبصار، وفي ذلك اليوم، لا يجزي والد عن ولده، ولا مولود هو جاز عن والده شيئا".
فائدة:
قال ابن قتيبة (المتوفى:276 هـ) في "المسائل والأجوبة في الحديث والتفسير": "سألتَ عن حدِيث ابنِ عباسٍ عن النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام: (إنّكم ملاقو الله غدًا حفاةً عُراةً غُرْلًا) رواه البخاري، وعن حديثِ أَبِي سَلَمَة بن عبد الرحمن عن أَبِي سعيدٍ الخدريّ: "إنه دعا عند موته بثوبَيْنِ جديدَيْنِ فلَبِسَهُما وقال: إني سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الميتَ يبعثُ في ثوبَيْهِ اللذَيْنِ يموتُ فيهما) ـ رواه أبو داود ـ، وذهبتَ إِلَى أنّ الحديثَيْن متناقِضان؟.. وقد تَدَبَّرْتُهما فوجدتُ حديثَ ابن عباسٍ موافقًا لكتاب اللهِ عز وجلَّ، لأنَّ الله يقول: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ}(الأنبياء:104)، وقد بَدَأَنا حفاةً عراةً غُرْلًا: أي قُلْفًا، فكذلك يعيدنا يومَ القيامة. وفي حديثٍ آخرَ لابنِ عباسٍ (أَوَّلُ مَنْ يُكسَى إبراهيمُ) ـ رواه أحمد ـ. فأما الحديث الآخَر الذي يرويه أَبُو سَلمة عن أَبِي سعيدٍ الخدريّ فإنه يُضَعَّفُ ببعضِ من نَقَلَه عن أَبِي سَلَمَة، فإنْ كان كذلك فليس لأحدٍ أن يُقابِلَ صحيحًا منقولًا من وجوهٍ بضعيف، وإنْ كان صحيحًا فله مخرجٌ حَسَنٌ يَسْلَمُ به الحديثانِ من التناقض، لأنَّ ابنَ عباسٍ قال: (إِنكم ملاقو اللهِ غدًا حفاةً عراةً). وفي حديثٍ آخَرَ أَنَّه قال: (يُحْشَرُ النّاسُ يومَ القيامة حفاةً عراة). وقال أَبُو سعيدٍ: (إنَّ الميتَ يُبْعَثُ في ثوبَيْهِ اللذينِ يموتُ فيهما)، فالبعثُ غيرُ الحَشْرِ وهو قَبْلَه. ومعنى البعث: الإِحياء بعدَ الموت، والإِيقاظ من النَّوْم. قال الله عزَّ وجلَّ في أصحاب الكهف: {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا}(الكهف:11): أي أنمناهم، وقال بعدَ ذلك: {ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا}(الكهف:12): أي أيقظناهم، وكذلك قوله: {فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ}(البقرة:259): أي أحياه. ومعنى الحشر أن يُحْشَرَ النّاسُ إِلَى الموقفِ للحساب.. وكأنَّ النّاسَ حين يُعادُونَ خلقًا جديدًا تُعادُ عليهم الأكفانُ التي ماتوا فيها، فإذا حُشروا إلى الله سُلبوها، ولقوه عُراةً كما بَدَأَ خلقَهم حين خرجوا من الأرْحامِ عُرَاة، وكانوا في الأرحام مستترينَ اسْتِتارَ الموتى بالقبور، ومُغَشَّيْنَ في الأَرْحامِ بالمشائِم، كما كان أهْلُ القبورِ مُغَشَّيْنَ فيها بالأكفانِ".
الإيمان بالبعث والحَشْر والجزاء مِنْ أصول الإيمان، فإنَّ الله تعالى يجمَع ما تفرَّق من أجساد الأموات ويعيدُها كما كانت، ثم يعيدُ الأرواح إليها، ثم يشقُّ الأرضَ عنها، ثم يسوقُها إلى المَحْشر للقضاء بينهم بالحق ومحاسبتهم ومجازاتهم على أعمالهم. ومِنْ عقيدة أهل السنة والجماعة أنهم يؤمنون بأن الله عز وجل يجمع الخلائق يوم القيامة لحسابهم والقضاء بينهم، وأن الناس جميعا يُحْشَرون حفاة عراة غرلاً كما بدأ الله عز وجل أول خَلق يعيده، فيكونون حفاة عراة غرلاً. قال الشيخ ابن عثيمين: "والبعث والحشر حق ثابت بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين". وقال ابن كثير: "فأوَّل يوم القيامة النَّفخُ في الصُّور نفخة الفزع والصَّعق، ثم نفخة البعث التي تعودُ فيها الأرواح إلى الأجساد فتحيا، ثم تُحشَر الخلائقُ إلى ربِّ العِباد، والصُّور هو القَرن الذي ينفُخ فيه إسرافيل عليه السلام". وقال ابن تيمية في "الواسطية": "وتقوم القيامة التي أخبر الله بها في كتابه وعلى لسان رسوله، وأجمع عليها المسلمون، فيقوم الناس مِنْ قبورهم لرب العالمين حُفاةً عُراةً غُرْلاً".