الأمن نعمة من أجل وأخطر وأعظم النعم، وعند أهل العلم وذوي العقول أنه ليس بعد الإيمان نعمة أعظم من نعمة الأمن يمن بها الله على الأوطان والبلدان والإنسان، وكما امتن الله على عباده بنعمة الإيمان: {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}(الحجرات:17)، كذلك امتن عليهم بنعمة الأمن؛ إذ لا يمكن للعبد أن يقوم بأمور الدين إلا في حدودها وعند حصولها.. ولا تصلح حياة الناس إلا معها، لأن الأمن إذا ما رفع رفعت معه سعادة العباد، ورخاء ونماء البلاد، وحل مكانه الخوف والجوع، والنهب والسرقة، وانتهاك الأعراض، وضياع الحقوق والأموال، وفشا الخراب والدمار.
فلم يكن غريبا أن يكون الأمن مطلبا يطلبه المخلصون لبلدانهم وأهليهم؛ كما قال إبراهيم عليه السلام: {رب اجعل هذا بلدا آمنا}(البقرة:126)، وأن يكون نعمة يمتن الله بها على من وهبهم إياها كما في قوله تعالى: {فليعبدوا رب هذا البيت. الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف}(قريش:3، 4)، وقال أيضا: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ ۚ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ}(العنكبوت:67).. في آيات كثيرة، تدل على أن الأمن نعيم من نعيم الدنيا.
بل جعل الله الأمن من نعيم أهل الجنة أنهم لا يخافون ولا يفزعون. قال تعالى: {{ٱدۡخُلُوهَا بِسَلَٰمٍ ءَامِنِينَ}(الحجر: 46)، {{وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ}(سبأ:37).
وروى الإمام الترمذي والبيهقي عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: [من أصبح آمنا في سربه، معافى في بدنه، عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها].
والمقصود أن نعلم أن انتشار الأمن مطلب من أهم مطالب الحياة، وضرورة من أهم ضروريات البشر، لا تتحقق مصالح العباد والبلاد إلا بوجوده، ولا تتحقق أهداف المجتمعات وتطلعاتها إلا بانتشاره، ولا تسعد نفوس الناس ولا يهنأ عيشهم إلا بازدهاره.
ومن هنا جاءت هذه الشريعة الغراء ومن أهم قواعدها ومقاصدها العامة حفظ الأمن العام بحفظ الضروريات الخمس التي لا تنعقد معيشة الناس إلا بحفظها ألا وهي: حفظ الدين، وحفظ العقل، وحفظ النفس، وحفظ العرض، وحفظ المال.
الشريعة وحفظ النفوس
على أن أكثر ما حصل فيه التهاون والتساهل في هذه الآونة الأخيرة هو مسألة التهاون في الدماء المحرمة، وإزهاق النفوس المعصومة ـ مسلمة كانت أو غير مسلمة ـ وهو ما حذر النبي صلى الله عليه وسلم منه وجعله علامة من علامات يوم القيامة كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (يتقارب الزمان، وينقص العمل، ويلقى الشح، وتظهر الفتن، ويكثر الهرج، قالوا وما الهرج يا رسول الله؟ قال: القتل.. القتل).
إن ترويع المسلم ممنوع شرعا، كما روى أحمد في مسنده والترمذي في سننه، قال صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لمسلم أن يروع مسلما).
وإشهار السلاح في وجه مسلم جريمة شنعاء تخرج صاحبها عن هدي محمد صلى الله عليه وسلم كما قال: (من حمل علينا السلاح فليس منا).
وجعل النبي صلى الله عليه وسلم قتال المسلم نوعا من الكفر كما في الحديث: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر).
ولا ينبغي لمسلم أن يشير إلى مسلم بسلاح، ولو على سبيل الدعابة والمزاح: (لا يشر أحدكم إلى أخيه بالسلاح فإنه لا يدري لعل الشيطان ينزع في يده فيقع في حفرة من النار)(متفق عليه).
وفي صحيح مسلم: (من أشار إلى أخيه بحديده فإن الملائكة تلعنه حتى يدعها، وإن كان أخاه لأبيه وأمه).
قال النووي: هذا مبالغة في بيان عموم النهي من كل أحد، سواء من يتهم أو لا يتهم، وسواء كان هزلا ولعبا أم لا؛ لأن ترويع المسلم حرام بكل حال.
فإذا كان هذا في مجرد الترويع فكيف بالقتل؟!
عقوبة قتل النفس المعصومة
إن من أعظم الموبقات، وأكبر الكبائر، أن يتجرأ إنسان فيقتل نفسا معصومة لا يحل قتلها.. قال تعالى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا}(النساء:93).
إنها موبقة من الموبقات، وورطة من الورطات التي لا مخرج منها: فهي من السبع الموبقات التي توبق صاحبها في النار، كما قال عليه الصلاة والسلام: (لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دما حراما)(رواه البخاري).
ومعناهُ: أنَّ المؤمنَ في أيِّ ذنبٍ وقَعَ كانَ له في الدِّينِ والشَّرعِ مَخْرَجٌ، إلَّا قَتْلَ النفس التي حرَّمَ اللهُ قَتْلَها، فإنَّه إذا ارتكَبَه يُضيِّقُ على نفْسِه في دِينِه؛ وذلك لِأنَّه أوقَعَ نفسَه في العملِ الَّذي توَعَّد عليه اللهُ سبحانَه وتعالى بأشدِّ العذابِ.
قال ابن عمر وهو راوي الحديث: "إن من ورطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها، سفكَ الدم الحرام بغير حله".
وقد روى الإمام الترمذي بسند حسن عن ابن عباس: أنه سأله سائل: يا أبا العباس هل للقاتل من توبة، فقال كالمعجب، ماذا تقول مرتين أو ثلاثة، فقال ابن عباس سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول: (يأتي المقتول بدمه متعلقا رأسه بإحدى يديه متلببا قاتله باليد الأخرى يشخب أوداجه دما حتى يأتي به العرش فيقول لرب العالمين هذا قتلني فيقول الله للقاتل تعست ويذهب به إلى النار).
ليس نفس المؤمن فقط
وهذا الحفظ للنفوس لا يتوقف على نفوس المسلمين، وإنما كل نفس آمنة مسالمة تعيش بين المسلمين.
في صحيح البخاري قال صلى الله عليه وسلم: (من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاما).
وعن رفاعة بن شداد قال: كنت أقوم على رأس المختار بن عبيد الكذاب فلما تبينت كذبه هممت والله أن أسل سيفي فأضرب به عنقه، حتى ذكرت حديثا حدثنا به عمرو بن الحَمِق قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من أمن رجلا على نفسه فقتله أُعطي لواء الغدر يوم القيامة)(رواه أحمد والنسائي).. وفي لفظ عند أحمد والطحاوي بسند صحيح: (من ائتمن رجلا على دمه فقتله فأنا منه بريء، وإن كان المقتول كافرا).
ليس في القتل إكراه
وتعظيما لحق الحياة، وصيانة النفوس وحمايتها، وعدم التجرؤ على استباحتها، لم يقبل الشارع التعذر بالإكراه في قتل النفوس المعصومة، بل أجمعت الأمة على أن الإكراه لا يعتبر عذرا في قتل أي نفس بغير حق، وأن من أكره على قتل أحد فلا يقتله؛ لأن نفس المكره ليست بأولى من نفس من أكره على قتله.
جاء في "أحكام القرآن" للقاضي ابن العربي المالكي: "إن القادر الظالم إذا قال لرجل: إن لم تفعل كذا وإلا قتلتك، أو ضربتك، أو أخذت مالك، أو سجنتك، ولم يكن له من يحميه إلا الله، فله أن يقدم على الفعل، ويسقط عنه الإثم في الجملة، إلا في القتل، فلا خلاف بين الأمة أنه إذا أكره عليه بالقتل أنه لا يحل له أن يفدي نفسه بقتل غيره؛ ويلزمه أن يصبر على البلاء الذي ينزل به"(3/ 160).
ومن فعل ذلك كان عليه إثم قتل النفس، ويجب القصاص على المكرَه والمكرِه عند الجمهور.
قال الإمام ابن قدامة: "أن يكره رجلا على قتل آخر، فيقتله، فيجب القصاص على المكرَه والمكرِه جميعًا، وبهذا قال مالك"..(انظر المغني: 8/ 266-267).
فعلى كل مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر ويخشى على نفسه عقوبة الله والخلود في النار، ورغب في النجاة يوم الفزع، أن يحفظ يده ويعصم نفسه من الوقوع في هذه الورطة وتلك البلية.. وأن يعمل على حماية النفوس وصونها من العبث حتى يعم الأمن ربوع الأوطان ويعيش الناس في أمان.. والله تعالى المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.