المساجد بيوت الرحمن، ورياض الجنان، تقام فيها الصلوات، وترتل فيها الآيات، وترفع فيها الدعوات، وتسكب العبرات؛ فتتنزل الرحمات، وتغفر الزلات، وتقال العثرات.
وللمساجد عمارٌ هم أوتادُها، لها يشتاقون، وفيها يرتاحون، وبين جنباتها يرابطون، دائما إليها ذاهبون ومنها آيبون.
{في بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ۙ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ}(النور:36، 37).
قلوبهم وأرواحهم معلقة بها، يقيمون في رحابها، ويتوجهون إلى الله في محرابها، وينقطعون فيها عن صخب الدنيا وباطلها، وأثقال الهموم ومتاعبها، يغسلون ما في نفوسهم من شبهات وشهوات، وأدواء وذنوب وخطايا وسيئات {فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين}(التوبة: ).
من عطاء الله لعمار المساجد:
والمساجد بيوت الله في الأرض، ومن أحب الله أحب بيوته، وأكثر من زيارته فيها، والضيف إذا نزل بساحة الكرماء ينال من جودهم وفضلهم، فكيف بساحة أكرم الأكرمين، الرحمن الرحيم رب العالمين؟ فأهل المساجد عند الله لهم مقام كبير، وفضل عظيم:
. هم أضياف الرحمن وأهل الإكرام: فعَن سلمَان رضي الله عنه أَن النَّبِي - صلى الله عليه وسلم – قَال: (من تَوَضَّأ فِي بَيته فَأحْسن الْوضُوء ثمَّ أَتى الْمَسْجِد فَهُوَ زائر الله وَحقّ على المزور أَن يكرم الزائر)(رواه الطبراني وحسنه الألباني).
. هم أهل النور يوم الظلمة: يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة)(رواه أبو داود والترمذي وصححه الألباني).
. هم أهل الظل يوم الحر الشديد: يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله).. وذكر منهم (ورجل قلبه معلق بالمساجد)، وفي رِوَايَة: (إذا خرج مِنْهُ حَتَّى يعود إِلَيْهِ).
. هم أهل جوار الرحمن في دار الكرامة: عنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ الله عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ: (إن الله لينادي يوم القيامة: أين جيراني، أين جيراني؟ قال: فتقول الملائكة: ربنا! ومن ينبغي أن يجاورك؟ فيقول: أين عمار المساجد؟) أخرجه الحارث ابن أبي أسامة في مسنده وصححه الألباني.
هؤلاء ما جاوروا الرب في دار كرامته إلا لما عمروا بيوته في الأرض، فكانت المساجد مأواهم، جلسوا فيها وقد اشتاقت نُفُوسهم إِلَى ذي العرش جل جلاله.
لله قوم لدار الخـلد أخلصــهم .. .. وخصهم بجــزيل الملك مولانــا
فلو تراهم غدا في دار ملكهم .. .. قد توجوا من حلي الكون تيجانا
وقد دعاهم إلى الفردوس سيدهم.. إلى الزيــارة والتســليم ركــبانـا
حتى إذا جاوزوا دار السلام وقد.. أبدى لهم وجهه الرحمن سبحانا
خــروا سجــودا فناداهــم بعزته .. إني رضيت بــكم قربا وجيرانا
إني خلقت لكــم دار النعــيم فـلا .. ترون بؤسا ولا تخشون أحزانا
هذا النعـيم الذي لا ينقضي أبـدا .. ولا تغـــيره الأزمـــان ألــوانــا
. تزيين الجنة وإعدادها لضيافتهم: يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من غدا إلى المسجد أو رواح أعد الله له في الجنة نزلا كلما غدا أو راح)(متفق عليه)
والنزل هو ما يهيأ للقادم من أنواع ومظاهر التكريم.. قال الحافظ في الفتح (2/ 148): النُزُل - بضم النون والزاي- المكان الذي يهيأ للنزول فيه، - وبسكون الزاي - ما يهيأ للقادم من الضيافة ونحوها. اهـ
والمعنى أنه لا يذهب أحد إلى المسجد في أي وقت كان أول النهار أو آخره ليصلي فيه جماعة، أو يطلب علماً، أو يقرأ قرآناً، أو نحو ذلك، إلاّ أعطاه الله في كل مرة في الجنة ضيافة وتكريماً، وهيأ له في الجنة نعيمًا خاصًا يستقبل به إذا دخلها بقدر غدوه إلى المسجد ورواحه منه، وبقدر وعدد ما يبذل في ذلك من خطوات ومشاق..
. سعة الرزق في الحياة، والجنة بعد الوفاة: فقاصد المسجد للصلاة في ضمان الله، لا يضيع أجره ولا يخيب سعيه، قال صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة في ضمان الله عز وجل: رجل خرج إلى مسجد من مساجد الله عز وجل، ورجل خرج غازيا في سبيل الله تعالى ورجل خرج حاجا)(رواه أبو نعيم في الحلية).
وفي رواية ابن حبان: (ثَلَاثَةٌ كُلُّهُمْ ضَامِنٌ عَلَى اللهِ، إِنْ عَاشَ رُزِقَ وَكُفِيَ، وَإِنْ مَاتَ أَدْخَلَهُ اللهُ الْجَنَّةَ: مَنْ دَخَلَ بَيْتَهُ فَسَلَّمَ، فَهُوَ ضَامِنٌ عَلَى اللهِ، وَمَنْ خَرَجَ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَهُوَ ضَامِنٌ عَلَى اللهِ، وَمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَهُوَ ضَامِنٌ عَلَى اللهِ).
. يباهي سبحانه بهم الملائكة: عن عبد الله بن عمرو قال: (صلينا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المغرب فرجع من رجع وعقب من عقب فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسرعًا قد حفزه النفس قد حسر عن ركبتيه فقال: أبشروا هذا ربكم قد فتح بابًا من أبواب السماء يباهي بكم الملائكة يقول: انظروا إلى عبادي قد قضوا فريضة وهم ينتظرون أخرى)( أخرجه ابن ماجه).
. رفع الدرجات ومحو السيئات: قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ}[يس:12].. قال المفسرون: "آثارهم: خطاهم إلى المساجد".
كان بنو سلمة في ناحية من المدينة، فأرادوا أن ينتقلوا إلى قرب المسجد، فأنزل الله: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ}، فدعاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إنه تكتب آثاركم، ثم قرأ لهم الآية، فتركوا الانتقال. "رواه الحاكم والبيهقي في شعب الإيمان".
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: (صلاة الرجل في الجماعة تضعف صلاته في بيته وسوقه خمسًا وعشرين ضعفًا؛ وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء، ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة، لم يخط خطوة إلا رفعت له بها درجة وحط عنه بها خطيئة)(متفق عليه).
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَن راحٍ إلى مسجد الجماعة؛ فخُطوةٌ تمحو سيئةً، وخُطوةٌ تكتبُ له حسنةً، ذاهباً وراجعاً)(رواه أحمد بإسناد حسنه الألباني).
والحاصل من مجموع الأحاديث أنه يحصل بالخطوة ثلاثةُ أشياء حين يمشي المسلم إلى المسجد: يكتب الله له بكل خطوة يخطوها حسنة، ويرفعه بها درجة، ويحط عنه بها سيئة.
. فذلكم الرباط فذلكم الرباط: وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط)(رواه مسلم).
والرباط هو الملازمة في سبيل الله أصلها من ربط الخيل، ثم سمي كل ملازم لثغر من ثغور الإسلام مرابطا وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "فذلكم الرباط" إنما هو تشبيه بالرباط في سبيل الله، فإن المقيم في المسجد لانتظار الصلاة يجاهد نفسه الباعثة على الخروج من المسجد كل وقت والمحرضة على الاشتغال بأشغاله الدنيوية كل ساعة، وقيل: سميت هذه الأفعال رباطا لأنها تربط صاحبها أي تكفه عن المعاصي والمآثم.
الملائكة وعمار المساجد
وكما كان لعمار المساجد مكانة عند الله وإكرام خاص، كذلك لهم عند ملائكة الله، فإنهم جنده ويحبون ما يحب، ومن إكرام الملائكة لهم:
. الصلاة عليهم: بمعنى الدعاء لهم، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (والملائكة يصلون على أحدكم مادام في مجلسه الذي صلى فيه، يقولون اللهم ارحمه اللهم اغفر له اللهم تب عليه ما لم يؤذ فيه ما لم يحدث فيه) (رواه مسلم).
. الشهادة لهم عند الله: أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم الله - وهو أعلم بهم - كيف تركتم عبادي؟! فيقولون: تركناهم وهم يصلون وأتيناهم وهم يصلون) وفي رواية أن أبا هريرة قال: اقرأوا إن شئتم: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً}(الأسراء:78).
. كتابة أسمائهم يوم الجمعة في لوحة الشرف: فعن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا كان يوم الجمعة كان على كل باب من أبواب المسجد ملائكة، يكتبون الأول فالأول؛ فإذا جلس الإمام، طووا الصحف، وجاؤوا يستمعون الذكر)(متفق عليه).
. السؤال عنهم إذا غابوا، وإعانتهم إن احتاجوا: فقد روى الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن للمساجد أوتاداً، لهم جلساء من الملائكة، فإن غابوا سألوا عنهم، وإن كانوا مرضى عادوهم، وإن كانوا في حاجة أعانوهم)(حسنه الألباني).
فاللهم ارزقنا حب المساجد، واجعل قلوبنا معلقة بها، وأنزل علينا فيها من بركاتك ورحماتك ما تطهر به قلوبنا، وترضى به عنا.