وقعت أحداث غزوة تبوك في شهر رجب من سنة تِسع من الهجرة النبوية قبل حَجَّة الوداع بلا خلاف. قال ابن حجر في "فتح الباري": "وهي آخِرُ غزوات النبي صلى الله عليه وسلم، ومن أهمِّها وكانت مليئة بالأحداث، فيها أخبار الموسرين الذين أنفقوا، والفقراء الذين عجزوا، وفيها أنباء المنافقين الذين فُضِحوا، وحكاية الثلاثة الذين خلفوا، فضلاً عن أخبار المسير والحصار والمشقة التي كانت فيها، والأحداث التي صاحبتها".
ومن الأحداث التي صاحبت غزوة تبوك: بَعْث النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد رضي الله عنه إلى أُكَيْدِرِ دُومَة. وأُكَيْدِر هو: أُكَيْدِر بن عبد الملك رجل من كِنْدة كان ملكا عليها، وكان نصرانيا، ودُومة: هي دومة الجندل، مدينة بقرب تبوك. وقبل أن يرسل النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد رضي الله عنه في هذه السرية بشره أنه سيأْسِر أكيدر هذا وهو يصيد الْبَقر. وقد ذكر أحداث بعثة هذه السرية: ابن هشام في "السيرة النبوية"، والبيهقي في "دلائل النبوة"، وابن كثير في "البداية والنهاية"، والسيوطي في "الخصائص الكبرى"، وابن الأثير في "أسد الغابة" وابن القيم في "زاد المعاد"، وغيرهم.
ذكر البيهقي في "دلائل النبوة": "باب بعث النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى أُكَيْدِرِ دُومَة، وما ظهر في إِخْبَاره عن وجوده وهو يصيد البقر مِنْ آثَار النُّبُوَّة": "أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى أُكَيْدِر بْن عَبْدِ الْمَلِكِ رَجُلٌ مِنْ كِنْدَة، كان ملكاً على دُومَة، وكان نصْرانِيًاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لِخَالِدٍ: إِنَّك ستجِده يصِيد البقر، فخرج خالد حتّى إذا كان منْ حصْنهِ منْظرَ العَيْن في ليْلَةٍ مُقْمِرَةٍ صافية، وهو على سطح ومعه امرأته، فأتتِ الْبَقَرُ تَحُكُّ بقرونها باب القصرِ، فقالت له امْرَأَتُه: هَلْ رَأَيْتَ مثل هذا قطُّ؟ قال: لا والله، قالتْ: فمنْ يَتْرُكُ مثل هذا؟ قال: لا أَحَد، فنزل فأمر بفرسهِ فأُسْرِجَ له، وركِب معه نفرٌ مِنْ أهل بيْته فيِهم أَخٌ له يُقَال له: حَسَّان، فخرجوا معهم بمطَارِدِهِمْ (جمع مطرد: وهو رمح قصير يطعن به) فَتَلَقَّتْهُمْ خَيْلُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذتْهُ وقتلوا أخاه حسَّان.. ثمَّ إِنَّ خَالداً قَدِمَ بِالْأُكَيْدِرِ عَلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم فَحَقَنَ لَهُ دَمَه، وصالحه على الْجِزْيَة، وخَلَّى سَبِيلَه، فرجع إلَى قَرْيَته، فقال رَجُلٌ مِنْ طيّء يُقَال له بُجَيْرُ بْنُ بُجْرَة يَذْكُر قَوْل رسول الله صلى الله عليه وسلم لِخَالِد: "إِنَّك ستجِده يصِيد البقر، وما كانتْ صَنْعَة الْبقرة تِلْك اللَّيْلَة حتَّى اسْتَخْرَجَتْهُ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم.
تَبَارَكَ سَائِقُ الْبَقَرَاتِ إِنِّي رَأَيْتُ اللهَ يَهْدِي كُلَّ هَادِ
فَمَنْ يَكُ حَائِدًا عَنْ ذِي تَبُوكٍ فَإِنَّا قَدْ أُمِرْنَا بِالْجِهَادِ".
وقال السيوطي في "الخصائص الكبرى": "وأخرج ابْن مندة وَابْن السكن وأبو نعيم.. من طريق أبي المعارك الشماخ بن معارك بن مرّة بن صَخْر بن بجيرة بن بجرة الطَّائِي حَدثنِي أبي عَن جدي عَن أَبِيه بجير بن بجرة قال: كنت في جيش خالد بن الولِيد حِين بَعثه النَّبِي صلى الله عليه وسلم إِلى أكيدر دومة فقال له: إِنَّك تَجده يصيد الْبَقر، فوافقناه (أتيناه) فِي لَيْلَة مُقْمِرَة وَقد خرج كما نعته (وصفه) رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذناه فَلَمَّا أتينا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أنشدته أَبْيَات منها:
تبارك سائق البقرات إني رأيتُ اللهَ يهدي كل هاد
فمن يك حائدا عن ذي تبوك فإنا قد أمرنا بالجهاد
فقال النبي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لا يفضض الله فاك، فأتت عليه تسعون سنة وَمَا تحرّك له سِنّ"..
وقدْ أهْدَى أكيدر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بغلة، وجُبّة (بردة معروفة من اليمن) من سندس (هو ما رقَّ من الديباج) منسوج فيها الذهب، فعجب الناس منها. عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (أُهْدِيَ للنبي صلى الله عليه وسلم جُبَّةُ سُنْدُس، وكان يَنْهَى عن الحرير، فعَجِبَ الناس منها، فقال: والذي نفسُ محمدٍ بيده، لمنادِيلُ سعدِ بنِ معاذٍ في الجنة أحسنُ من هذا. وقال سعيد، عن قتَادَة، عن أنسٍ: إنَّ أُكَيدِرَ دَوْمَةَ أَهْدَى إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم) رواه البخاري.
قال النووي: "وَأَمَّا أُكَيْدِر فهو بضم الهمزة وفتح الكاف، وهو أُكَيْدِرُ بْنُ عَبْدِ الْمَلَكِ الْكِنْدِيُّ، قال الخطيب البغدادي في كتابه "المبهمات": كان نصرانيا ثم أسلم، قال: وقيل: بل مات نصرانيا. وقال ابن منده وأبو نعيم الأصبهاني في كتابيهما في "معرفة الصحابة": إن أُكَيْدِرًا هذا أسلم وأهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حُلَّةَ سِيَرَاء". قال ابن الأثير: أما الهدية والمصالحة فصحيحان، وأما الإسلام فغلط، قال: لأنه لم يُسْلِم بلا خلاف بين أهل السِّيَر، ومن قال أسلم فقد أخطأ.. قال: وكان أُكَيْدِرٌ نَصْرَانِيًّا فلما صالحه النبي صلى الله عليه وسلم عاد إلى حصنه وبقي فيه، ثم حاصره خالد بن الوليد في زمان أبي بكر الصديق رضي الله عنه فقتله مشركا نصرانياً، يعني لنقضه العهد".
ذكر الكثير من أهل وكُتاب السيرة النبوية إخبار وتبشير النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد رضي الله عنه قبل أن يذهب في هذه السرية بأنه سَيَأْسِر أكيدر دومة وهو في حال صيده للبقر، في جملة معجزاته ودلائل نبوته صلى الله عليه وسلم، وذلك لإخباره صلوات الله وسلامه عليه عن أمر غيبي مستقبلي وقع وِفْق ما أخبر به. قال الله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى* إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}{النَّجم 4:3). ولذلك كان حسان بن ثابت رضي الله عنه يقول عن النبي صلى الله عليه وسلم:
فإِنْ قال في يومٍ مقالةَ غائبٍ فتصديقُها في ضحوة اليومِ أو غد