المتأمل في أحداث السيرة النبوية يَعْجَب مِنْ فِقْهِ النبي صلى الله عليه وسلم في معاملة نفوس أصحابه، وحكمته في تربيتهم وإصلاحه لأخطائهم، وقد ظهر ذلك في مواقف كثيرة من سيرته صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك ما حدث في السنة الثامنة من الهجرة النبوية في موقفه عند تقسيمه للغنائم في غزوة حُنَيْن. فقد غَنِم المسلمون في هذه الغزوة مغانم كثيرة، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم أن يتألف بعض حديثي العهد بالإسلام بالكثير من هذه الغنائم، فأعطى لزعماء قريش وغطفان وتميم عطاء كبيراً، إذ كانت عطية الواحد منهم مائة من الإبل، ومن هؤلاء: أبو سفيان بن حرب، وسهيل بن عمرو، وحكيم بن حزام، وصفوان بن أمية، وعيينة بن حصن الفزاري، والأقرع بن حابس، ومعاوية ويزيد ابنا أبي سفيان. وقد تأثر بعض الأنصار من هذا العطاء بحكم الطبيعة البشرية، فظهر بينهم نوع من الاعتراض على ذلك، فراعى النبي صلى الله عليه وسلم هذا الاعتراض وعمل على إزالته بحكمة ورفق، في موقف فيه الكثير من القيم والدروس التربوية الجديرة بالوقوف معها للاستفادة منها في واقعنا.
عن أبى سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (لما أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطى من تلك العطايا في قريش وقبائل العرب، ولم يكن في الأنصار منها شيء، وجد (غضب) هذا الحي من الأنصار في أنفسهم حتى كثرت فيهم القالة، حتى قال قائلهم: لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه، فدخل عليه سعد بن عبادة فقال: يا رسول الله، إن هذا الحي قد وجدوا عليك في أنفسهم لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت، قسمتَ في قومك وأعطيتَ عطايا عظاما في قبائل العرب، ولم يكن في هذا الحي من الأنصار شيء، قال: فأين أنت من ذلك يا سعد؟ قال: يا رسول الله، ما أنا إلا امرؤ من قومي، وما أنا من ذلك، قال: فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة، قال: فخرج سعد فجمع الناس في تلك الحظيرة، قال: فجاء رجال من المهاجرين فتركهم، فدخلوا وجاء آخرون فردهم، فلما اجتمعوا أتاه سعد، فقال: قد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار، قال: فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه بالذي هو له أهل، ثم قال: يا معشر الأنصار ما قالة بلغتني عنكم وجدة وجدتموها في أنفسكم، ألم تكونوا ضلالا فهداكم الله، وعالة (فقراء) فأغناكم الله، وأعداء فألف الله بين قلوبكم؟ قالوا: بلِ الله ورسوله أمَن وأفضل، قال: ألا تجيبونني يا معشر الأنصار؟ قالوا: وبماذا نجيبك يا رسول الله، ولله ولرسوله المنّ والفضل، قال: أما والله لو شئتم لقلتم، فَلَصَدَقْتُمْ، وَصُدِّقْتُمْ، أتيتنا مُكَذَّبًا فصدقناك، ومخذولا فنصرناك، وطريدا فآويناك، وعائلا فآسيناك، أوجدتم في أنفسكم يا معشر الأنصار في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوما ليسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم، ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعون برسول الله صلى الله عليه وسلم في رحالكم؟ فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك الناس شِعبا، وسلكت الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار، قال: فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا: رضينا برسول الله قسما وحظا، ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرقوا) رواه أحمد.
الأنصار بَشر يَعْرِض لهم ما يعرض للبشر من الخطأ والنسيان، والسهو والغفلة، وهم من المؤمنين الذين أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم أن يُذكرهم في قوله تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ المُؤْمِنِينَ}(الذاريات:55). فلما ذكرهم النبي صلى الله عليه وسلم نفعتهم الذكرى، واعترفوا بصدق ما قال، لأنهم يحملون قلوبا سليمة رقيقة، ما أن تسمع الحق حتى تسارع إليه مستسلمة، طائعة راضية بحكم الله عز وجل وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم. قال ابن القيم: "ولما شرح لهم صلى الله عليه وسلم ما خفي عليهم من الحكمة فيما صنع رجعوا مذعنين، ورأوا أن الغنيمة العظمى ما حصل لهم مِنْ عَوْد (رجوع) رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بلادهم".
الاعتراف بالفضل لأهل الفضل:
الإنسان بطبيعته مجبول على حب الثناء من الآخرين، حتى إذا تدرج وارتقى في درجات القرب من الله عز وجل، استوى عنده مدح الصديق المحب، وذم العدو الحقود، والأصل ألا يرجو المسلم بفعله من الناس جزاءً ولا شكوراً، لكن شكر الناس لمن أدى إليهم معروفاً، والإقرار لأهل الفضل بالفضل سنة نبوية، وهو يشيع في المجتمع روح الحب والألفة، والبذل والإحسان، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يحث الناس على شكر مَنْ أسدى إليهم معروفاً، فقال صلى الله عليه وسلم: (لا يشكر الله مَنْ لا يشكر الناس) رواه أحمد.
فكن شـاكـراً للمنعمـين لفضلهــم وأفْضِلْ عليهم إن قدرتَ وأنْعِم
ومَنْ كان ذاك شكر فأهلُ زيادةٍ وأهلٌ لبذل العُرْف من كان يُنْعِم
ووجه الاعتراف بالفضل لأهله في هذا الموقف النبوي قوله صلى الله عليه وسلم للأنصار: (أما والله لو شئتم لقلتم، فَلَصَدَقْتُمْ، وَصُدِّقْتُمْ، أتيتنا مُكَذَّبًا فصدقناك، ومخذولا فنصرناك، وطريدا فآويناك، وعائلا فآسيناك.. وخائفاً فأمنَّاك، ومخذولاً فنصرناك).
الحِلم مع القدرة:
الحِلم هو ضبط النفس عند الغضب، وكفّها عن الرد على الإساءة مع القدرة على ذلك، ابتغاءاً للأجر والمثوبة من الله عز وجل. ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم يُضرب به المثل في الحِلم وفي عظيم الخُلق، فكان أحسن الناس خُلقاً، وأعظمهم حلما، ولا يزيد مع كثرة الأذى إلا صبراً، وعلى إسراف الجاهل إلا حلما، وعفواً وإحساناً، بل إن حلمه صلى الله عليه وسلم كان دليلاً من دلائل نبوته، ومن أعظم الأسباب في الإيمان به وإجابة دعوته، ولذلك لما قال له بعض الأنصار بعد توزيعه للغنائم: (يغفر الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم، يُعطي قريشاً ويدعنا (يتركنا)، وسيوفنا تقطر من دمائهم)، لم يغضب منهم، ولم يهجرهم أو يقاطعهم، بل ذهب إليهم وحاورهم برفق وحكمة، واعترف بفضلهم، ثم مدحهم وأثنى عليهم ودعا لهم ولأبنائهم فقال: (فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنتُ امرأ من الأنصار، ولو سلك الناس شِعْباً، وسلكت الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار)، فلم يستطيعوا أن يوقفوا تدفق دموعهم تأثراً بموقفه وكلامه صلى الله عليه وسلم، قال أبو سعيد الخدري: (فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا: رضينا برسول الله قسْماً وحظاً)، وما ذلك إلا نتيجة لحلمه وحسن خلقه صلى الله عليه وسلم.
ما ذا أقول إذا وصفت محمداً عجز البيان وحِلمه لا يُفقد
لا تضربنَّ به في حلمه مثلاً فما له في البرايا يُعرف المَثل
المصلحة الشرعية هي ميزان العطاء والمنع:
المصلحة الشرعية هي ميزان العطاء والمنع الذي أخذ به النبي صلى الله عليه وسلم في تقسيمه وتوزيعه للغنائم، فقد فضَّل وميَّز بعض زعماء وكبار قريش في عطائه، تأليفاً لقلوبهم لحداثة إسلامهم، وهذا الميزان لم يُفهم من بعض الأنصار في أول الأمر، ظنا منهم أنه صورة من صور الإهمال لهم ولما بذلوه في خدمة دينهم، وتفضيل غيرهم عليهم، ففي رواية البخاري: (فقال له فقهاء الأنصار: أما ذوو رأينا يا رسول الله فلم يقولوا شيئا، وأما أناس منا حديثة أسنانهم قالوا: يغفر الله لرسول الله! يعطي قريشاً ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإني أعطي رجالا حديثي عهد بكفر أتألفهم).
والنبي صلى الله عليه وسلم استخدم هذا الأسلوب في تفضيله للبعض في العطاء في مواقف أخرى. عن عمرو بن تغلب قال: أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم قوما ومنع آخرين، فكأنهم عتبوا عليه، فقال: (إني أعطي قوما أخاف هلعهم وجزعهم، وأكل قوما إلى ما جعل الله في قلوبهم من الخير والغنى، منهم عمرو بن تغلب) رواه البخاري. فكان هدفه صلى الله عليه وسلم من هذا العطاء المجزي للبعض تأليفهم وتثبيتهم وتحويل قلوبهم من حب الدنيا إلى حب الإسلام، بعد أن يخالط الإيمان بشاشة قلوبهم، ويتذوقون حلاوته، ويتربون في مدرسته، وقد حدث ذلك بالفعل. عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (إن كان الرجل ليُسْلِم ما يريد إلا الدنيا، فما يسلم حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها) رواه مسلم. وعن صفوان بن أمية رضي الله عنه قال: (لقد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطاني وإنه لأبغض الناس إليَّ، فما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إليَّ) رواه مسلم.
قال ابن القيم في "زاد المعاد: "ومعلوم أن الأنفال لله ولرسوله يقسمها رسوله حيث أمره لا يتعدى الأمر، فلو وضع الغنائم بأسْرِها في هؤلاء لمصلحة الإسلام العامة، لما خرج عن الحكمة والمصلحة والعدل، ولما عميت أبصار ذي الخويصرة التميمي وأضرابه عن هذه المصلحة والحكمة.. قال له قائلهم: اعدل فإنك لم تعدل، وقال مشبهه: إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله.. ولَعَمْر الله إن هؤلاء من أجهل الخلق برسوله، ومعرفته بربه، وطاعته له، وتمام عدله، وإعطائه لله، ومنعه لله".
التعميم لا التعيين في النصيحة والتوجيه:
استخدم النبي صلى الله عليه وسلم لفظاً عاماً في مخاطبة مَنْ حضره مِنَ الأنصار من الذين اعترضوا في البداية على طريقة قسمته وتوزيعه للغنائم، ولم يعين شخصا بعينه، أو اثنين أو ثلاثة بأسمائهم مع أنه كان يعلم بالذين تكلموا، بل قال لهم: (يا معشر الأنصار) بصورة التعميم، وهذا الأسلوب من الأساليب التربوية النبوية في التوجيه والنصح بطريق التعميم ـ دون ذكر اسم صاحب الخطأ ـ، فكثيراً ما كان يقول صلى الله عليه وسلم لمن أخطأ: (ما بال أقوام؟)، وهو من باب التوجيه المباشر، ولكن بأسلوب التعميم دفعاً للحرج عن المخطيء، وستراً له، ورفقاً به، فيتعلم المخطيء وغيره. عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بلغه عن الرجل شيء لم يقل: ما بالُ فلانٍ يقول؟ ولكن يقول: ما بالُ أقوامٍ يقولون كذا وكذا) رواه أبو داود. قال النووي: "الأوْلى ترك التشهير والإعلان بالإنكار على المُعَيَّن أمام الناس إن كان الأمر لا يتطلب ذلك، وينبغي أن يسر بالنصيحة إليه ليتحقق القبول".
ما حدث في موقف النبي صلى الله عليه وسلم مع الأنصار بعد قسمته وتوزيعه غنائم حُنَيْن، يُعَدُّ منهجا تربوياً حكيماً ينبغي أن يتخذه الدعاة والمربون، يسيرون وفق معطياته ودروسه.. فمواقف وأحداث السيرة النبوية تبين للمسلم حياة النبي صلى الله عليه وسلم بدقائقها وتفاصيلها، وتُظهر له بوضوح أنه كان قائداً ومعلماً، ومربياً وداعية، وعلى هذا فكل مسلم يجد بغيته وقدوته في السيرة النبوية العطِرة، التي هي التطبيق العملي والمثالي للإسلام، والله عز وجل يقول: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}(الأحزاب:21).