سمع المسلمون بالمدينة المنورة بخروج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة مهاجرا إليهم، فكانوا يغدون كل غداة إلى ظاهر المدينة ينتظرونه، حتى إذا اشتد الحر عليهم عادوا إلى بيوتهم، حتى إذا كان اليوم الذي قدم فيه انتظروه حتى لم يبق ظل يستظلون به فعادوا. وقدِم الرسول صلى الله عليه وسلم وقد دخلوا بيوتهم، فبصر به يهودي فناداهم، فخرجوا فاستقبلوه، وكانت فرحتهم به غامرة، فعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: (ما رأيتُ أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم برسول الله صلى الله عليه وسلم) رواه البخاري. وكان دخول النبي صلى الله عليه وسلم للمدينة كما قال الحافظ ابن حجر: "في يوم الاثنين الثامن من ربيع الأول من السنة الرابعة عشرة من النبوة ـ وهي السنة الأولى من الهجرة ـ، ونزل بقباء".
ظل النبي صلى الله عليه وسلم بقباء أربعة عشر يوما بني خلالها مسجد قباء، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (فأقام فيهم (في بني عمرو بن عوف) أربع عشرة ليلة، ثم أرسل إلى ملإِ بني النجار، قال: فجاءوا متقلدي سيوفهم، قال: وكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته وأبو بكر ردفه وملأ بني النجار حوله، فقيل في المدينة: جاء نبي الله، جاء نبي الله) رواه البخاري. وتنازع أهل المدينة من الأنصار أيهم ينزل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته.
قال ابن القيم في "زاد المعاد": "فسار حتى نزل بقباء في بني عمرو بن عوف، فنزل على كلثوم بن الهدم وقيل: على سعد بن خيثمة، والأول أثبت، فأقام فيهم أربع عشرة ليلة، وأسس مسجد قباء، وهو أول مسجد أسس بعد النبوة، فلما كان يوم الجمعة ركب بأمر الله له، فأدركته الجمعة في بني سالم بن عوف فجمع بهم في المسجد الذي في بطن الوادي، ثم ركب فأخذوا بخطام راحلته: هلم إلى العدد والعدة والسلاح والمنعة، فقال: (خلوا سبيلها فإنها مأمورة)، فلم تزل سائرة به لا تمر بدار من دور الأنصار إلا رغبوا إليه في النزول عليهم ويقول: (دعوها فإنها مأمورة)، فسارت حتى وصلت موضع مسجده اليوم فبركت ولم ينزل عنها حتى نهضت، وسارت قليلا، ثم التفتت ورجعت في موضعها الأول فبركت، فنزل عنها وذلك في بني النجار أخواله، وكان من توفيق الله لها، فإنه أحب أن ينزل عليهم ليكرمهم بذلك، فجعلوا يكلمونه في النزول عليهم، وبادر أبو أيوب إلى راحلته فأدخله بيته ". وفي رواية أنس عند البخاري، قال: (قال نبي الله صلى الله عليه وسلم: أي بيوت أهلنا أقرب؟ فقال أبو أيوب: أنا يا رسول الله، هذه داري، وهذا بابي: قال: فانطلق فهيء لنا مقيلا (مكاناً)، قال: قوما على بركة الله) رواه البخاري.
وعن أفلح مولى أبي أيوب عن أبي أيوب: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل عليه، فنزل النبي صلى الله عليه وسلم في السفل وأبو أيوب في العلو، قال: فانتبه أبو أيوب ليلة فقال: نمشي فوق رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فتنحوا فباتوا في جانب، ثم قال للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: السفل أرفق، فقال أبو أيوب: لا أعلو سقيفة أنت تحتها، فتحول النبي صلى الله عليه وسلم في العلو وأبو أيوب في السفل، فكان يصنع للنبي صلى الله عليه وسلم طعامًا فإذا جيء به إليه سأل عن موضع أصابعه، فيتتبع موضع أصابعه، فصنع له طعامًا فيه ثوم فلما رُدَّ (الطعام) إليه سأل عن موضع أصابع النبي صلى الله عليه وسلم، فقيل له: لم يأكل ففزع وصعد إليه فقال: أحرام هو؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا، ولكني أكرهه، قال: فإني أكره ما تكره، أو ما كرهت، قال: وكان النبي صلى الله عليه وسلم ـ يُؤْتَى) رواه مسلم، وفي رواية: (يؤتى بالوحي).
قال النووي: " قوله: "نزل النبي صلى الله عليه وسلم في السفل وأبو أيوب في العلو"، ثم ذكر كراهة أبي أيوب لعلوه ومشيه فوق رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم تحول إلى العلو، أما نزوله صلى الله عليه وسلم أولا في السفل فقد صرح بسببه وأنه أرفق به وبأصحابه وقاصديه، وأما كراهة أبي أيوب فمن الأدب المحبوب الجميل، وفيه إجلال أهل الفضل، والمبالغة في الأدب معهم.. وفيه منقبة ظاهرة لأبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه من أوجه: منها نزوله صلى الله عليه وسلم عنده، ومنها أدبه معه، ومنها موافقته في ترك الثوم وقوله: إني أكره ما تكره، ومن أوصاف المحب الصادق أن يحب ما أحب محبوبه ، ويكره ما كره، وقوله : "فكان يصنع للنبي صلى الله عليه وسلم طعاما، فإذا جيء به إليه سأل عن موضع أصابعه، فيتتبع موضع أصابعه": يعني إذا بعث إليه فأكل منه حاجته، ثم ردَّ الفضلة، أكل أبو أيوب من موضع أصابع النبي صلى الله عليه وسلم تبرُكَاً.. وقوله: "فقيل له: لم يأكل، ففزع" يعنى: فزع لخوفه أن يكون حدث منه أمر أوجب الامتناع من طعامه".
كان أبو أيوب رضي الله عنه عظيم الأدب في ضيافته للنبي صلى الله عليه وسلم حريصا على راحته، ملتمساً بركته، فقد استعظم أن يسكن في منزل يعلو فيه على النبي صلى الله عليه وسلم.. وكذلك ظهر حرصه رضي الله عنه على اتباع النبي صلوات الله وسلامه عليه، بل إنه جعل مشاعره تتجاوب مع هديه صلى الله عليه وسلم، فيحب ما أحب ويكره ما كره، حيث قال للنبي صلى الله عليه وسلم: "فإني أكره ما تكره".
قال الذهبي في ترجمته لأبي أيوب رضي الله عنه: "أبو أيوب الأنصاري خالد بن زيد بن كليب رضي الله عنه الخزرجي.. الذي خصه النبي صلى الله عليه وسلم بالنزول عليه في بني النجار، إلى أن بنيت له حجرة أم المؤمنين سوْدة، وبنى المسجد الشريف، اسمه: خالد بن زيد.. حدث عنه: جابر بن سمرة، والبراء بن عازب، والمقدام بن معد يكرب، وعبد الله بن يزيد الخطمي، وجُبَيْر بن نفير، وسعيد بن المسيب، وموسى بن طلحة، وعروة بن الزبير، وعطاء بن يزيد الليثي، وأفلح مولاه وآخرون، وله عدة أحاديث، ففي (مُسْنَدِ بَقِيٍّ): له مائة وخمسة وخمسون حديثا، فمنها في (البخاري ومسلم): سبعة، وفي (البخاري): حديث واحد، وفي (مسلم): خمسة أحاديث".
لقد حاز أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه وأسرته مَنْقَبَة عظيمة، ومنزلة رفيعة، ومكانة عالية ببركة ضيافته للنبي صلى الله عليه وسلم، وكانت هذه الضيافة الكريمة خير مضيف لخير ضَيْفٍ صلى الله عليه وسلم.