ليس لعظمة النبي صلوات الله عليه حدود؛ ولا لبحر عظمته ساحل؛ ولا للإحاطة بجمال أخلاقه وأوصافه سبيل.. فأي قلم هذا الذي يحيط وصفه ببعض نواحي تلك العظمة النبوية؟ وأية صحيفة تتسع لأقطار هذه العظمة التي شملت كل قطر، وأحاطت بكل عصر، وكتب لها الخلود أبد الدهر؟ وأي مقال يكشف لك عن أسرارها، وإن كتب بحروف من النور وكان مداده أشعة الشمس؟
على أنك تعجب حين ترى هذه العظمة التي فاقت الأوصاف، وتعالت عن متناول الألسنة والأقلام والعقول والأفهام ماثلة في كل قلب، مستقرة في كل نفس، يستشعرها القريب والبعيد، ويعرف بها العدو والصديق، وتهتف بها أعواد المنابر، وتهتز لها ذوائب المنائر.
ألم تَرَ أن الله خلّد ذكــرَه .. .. إذا قال في الخمس المؤذن أشهدُ
وشقَّ له من اسمه ليُجلَّه .. .. فـذو العرش محمود وهذا محمدُ
جوانب العظمة
وإن العظيم ليكون عظيما بإحدى ثلاث:
. بمواهب تميزه عن غيره، وتعلو به عمن سواه، وتجعله بين الناس صنفًا ممتازًا، يجل عن المساماة ويعظم على المسابقة.
. أو بعمل عظيم يصدر عنه ويعرف به، ويعجز الناس عن الإتيان بمثاله، أو النسج على منواله.
. أو فائدة يسديها إلى الجماعة وينفع بها الناس.
وبقدر ما يكون العظيم متمكنًا من وصفه مفيدًا في إنتاجه بقدر ما تكون درجته من العظمة، ومنزلته من التقدير، ولهذا تفاوتت منازل العظماء، واختلفت مراتبهم، فمنهم سابق بلغ ذؤابات العظمة، ومقتصد بلغ من حدودها ما يرفعه إلى مصاف العظماء، ومقصر كان نصيبه منها أن نسب إليها ولصق بها أو لصقت به.
والناس ألف منهمُ بواحد .. .. وواحد كالألف إنْ أمرٌ عَنَى
كذلك يكون العظيم عظيمًا بواحدة من هذه الثلاث، وبجزء من الواحدة يصل إليه، فكيف إذا جمعها جميعًا، ووصل في كل منها إلى التي ليس بعدها غاية، وجاوز في علوه الحدود التي وضعها الناس للعظمة والعظماء، وذلك ما اختص به الله تبارك وتعالى نبيه المجتبى، وحبيبه المصطفى سيدنا محمد.
رتب تسقط الأمانيُّ حسرى .. .. دونها ما وراءهن وراءُ
أولا: المواهب
فأمَّا عن المواهب التي ميزه الله بها عن غيره فحدث عن الفيض ولا حرج؛ فلقد كان من شرف النسب وكرم الأصل في صميم قريش ولبابها وذروة الشرف وسنامه، لم تزل في ضمائر الكون تختار له الأمهات والآباء، فهو من خير أسرة، في أنبل قبيلة، لأكرم شعب وأزكى جنس، ولا غرو فهو خيار من خيار من خيار.
وهو من حيث الجمال الخَلْقي في أسمى معانيه وأعلى رتبه، قوي البنية تام الخلقة أجمل الناس طلعة وأوفرهم هيبة، وأوضأهم وجها، وأعذبهم ابتسامة وأحلاهم منطقًا، إذا تبسم كأنما يفتر عن حَب الغمام، وإذا ضحك رؤي النور يخرج من بين ثناياه.
وإذا نظرت إلى أسرَّة وجهه .. .. برقت كبرق العارض المتهلل
وإن ذلك لمعنى عرضي من معاني الكمال الذاتي الذي أودعه الله نفس نبيه محمد، ولع الناس بالتمدُّح به والإغراق في ذكره، وهم لو التفتوا إلى سواه من معاني الكمال المحمدي لوجدوا في ذلك البحر الذي لا ينضب معينه، والمصباح الذي لا يخبو نوره، وإنما ذكرناه في معرض حديثنا عن العظمة المحمدية لأنه كمال انفرد به المصطفي ولم يشاركه فيه أحد سواه.
وهو من حيث الكمال الخُلُقي بالذروة التي لا تُنال والسمو الذي لا يُسامى، أوفر الناس عقلاً، وأسَدّهم رأيًا، وأصحهم فكرة، وحسبك أنه ساس هذه القبائل الجافية والنفوس القوية العاتية ولم يستخدم في ذلك الإغراء بالمال ولا الإرهاب بالقوة؛ فلقد كان في قُلٍّ من الثروة وضعف من العدد والعُدة، ولكنه العزم الماضي، والرأي الثاقب، والتأييد الإلهي، والكمال المحمدي.
أسخى القوم يدًا، وأنداهم راحة، وأجودهم نفسًا، أجود بالخير من الريح المرسلة، يعطي عطاء من لا يخشي الفقر، يبيت على الطوى وقد وهب المئين وجاد بالآلاف، لا يحبس شيئًا، وينادي صاحبه: (أنفق بلالاً ولا تخشَ من ذي العرش إقلالا).
أرحب الناس صدرًا وأوسعهم حلمًا، يحلم على من جهل عليه، ولا يزيده جهل الجاهلين إلا أخذًا بالعفو وأمرًا بالمعروف، تواتيه المقدرة ويمسك بغرة النصر فلا يلقى منه خصمه إلا نُبلا وكرمًا وسماحة وشممًا، ينادي أسراه في كرم وإباء: (اذهبوا فأنتم الطلقاء).
أعظم الناس تواضعا، يخالط الفقير والمسكين، ويجالس الشيخ والأرملة، وتذهب به الجارية إلى أقصى سكك المدينة فيذهب معها ويقضي حاجتها، ولا يتميز عن أصحابه بمظهر من مظاهر العظمة، ولا برسم من رسوم الظهور.
ألين الناس عريكة، وأسهلهم طبعًا، ما خُيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا، وهو مع هذا أحزمهم عند الواجب، وأشدهم مع الحق، لا يغضب لنفسه، فإذا انتهكت حرمات الله لم يقم لغضبه شيء، وكأنما يفقأ في وجهه حَب الرمان من شدة الغضب.
أشجع الناس قلبًا وأقواهم إرادة، يتلقى الناس بثبات وصبر، تمر به الأبطال كلمى هزيمة، وهو ضاحك السن باسم الثغر وضّاح الجبين ينادي بأعلى صوته: أنا النبي لا كذب .. .. أنا ابن عبد المطلب.
وهو من شجاعة القلب بالمنزلة التي يجعل أصحابه إذا اشتد البأس يتقون برسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن قوة الإرادة بالمنزلة التي لا ينثني معها عن واجب ولا يلين في حق، ولا يتردد ولا يضعف أمام شدة، ويضرب المثل العملي في ذلك لأصحابه فيقول لهم: (ما كان لنبي إذا لبس لأْمة حربه أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه).
أعفُّ الناس لسانًا، وأوضحهم بيانًا، يسوق الألفاظ مفصلة كالدر، مشرقة كالنور، طاهر كالفضيلة في أسمى مراتب العفة وصدق اللهجة، يقول لأصحابه : " إني لم أبعث لعّانًا وإنما بعثت رحمة ".
أعدلهم في الحكومة وأعظمهم إنصافًا في الخصومة، يقِيد من نفسه ويقتص لخصمه، يقيم الحدود على أقرب الناس إليه، ويقسم بالذي نفسه بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها.
أسمى الخليقة روحًا، وأعلاها نفسًا، وأزكاها وأعرفها لله، وأشدها صلابة وقيامًا بحقه، وأقومها بفروض العبادة ولوازم الطاعة، مع تناسق غريب في أداء الواجبات واستيعاب عجيب لقضاء الحقوق، يؤتي كل ذي حق حقه، فلربِّه حقه ولصاحبه حقه ولزوجه حقها ولدعوته حقها، ولكل واجب من واجبات الإنسانية ما يتطلبه من أداء وإتقان.
أزهد الناس في المادة، وأبعدهم عن التعلق بعرض هذه الدنيا، يطعم ما يقدم إليه ولا يعيب طعامًا قط، وإذا لم يجد ما يأكل قال إني صائم، وينام على الحصير والأُدم المحشوّ بالليف، ويقول في المنعمين المترفين: "إن لهم الدنيا ولنا الآخرة".
قضى زهرة شبابه مع امرأة من قريش تكبره بخمس عشرة سنة، قد تزوجت من قبله وقضت زهرة شبابها مع غيره، ولم يتزوج معها أحدًا وما تزوج بعدها لمتعة، وما كان في أزواجه الطاهرات بكرًا غير عائشة رضي الله عنها.
أرفق الناس بالضعفاء، وأعظمهم رحمة بالمساكين والبائسين، شملت رحمته وعطفه الإنسان والحيوان، يغذيهم بحنانه ويعطف على الكل بجنانه، ويقول: "في كل ذات كبد رطبة أجر"، ويعد الرفق بالحيوان قربة إلى الله، يشكر عليها عبده ويكافئ فيها خلقه، ويعتبر القسوة جريمة حتى على الحيوان الأعجم، ويحذر أصحابه فيقول: (إن امرأة دخلت النار في هرة حبستها فلا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض).
وهو مع رجاحة عقله ونضوج فكره وقوة إرادته، أرقُّ الناس عاطفة، وأرقُّهم شعورًا، وأرقهم إحساسًا، يجد لزوجه من الحنان والوفاء ما يجعله يقول: (حُبِّب إليّ من دنياكم: الطيب والنساء وجعلت قرة عيني في الصلاة)، ويجد لابنه من الشفقة والحب ما يجعله يقول عند فقده : (إن القلب ليحزن، وإن العين لتدمع، ولا نقول إلا ما يرضي الرب، وإنّا على فراقك يا إبراهيم لمحزونون).
ذلك قبس من نور النبوة وشعاع من مشكاة الخلق المحمدي الطاهر، وإن في القول وفي المقام تفصيلا.
وقد وجدت مكان القول ذا سعة .. .. فإن وجدت لسانًا قائلا فقلِ
وإنك لتلقى العظيم ليعظم في قومه ويسود في عشيرته بخصلة واحدة من هذه الخصال فكيف بمن حِيزت له بحذافيرها، وبلغت في كل منها نهايتها.
وإنك لتجد لكل عظيم هفوة ولكل سيد كبوة ولكل نابِهٍ نقيصة أخذت عليه وعرفت عنه كأنه الكلف يشين وجه البدر، أو الغمام يحجب نور الشمس، سل التاريخ ينبئك أنك لست بواجد شيئا من هذا أمام عظمة النبي، فقد عُصم من النقائص، وعلا عن الهفوات، وجل مقامه عن أن تلصق به نَبْوَة.
خُلقتَ مبرَّأً من كل عيبٍ .. .. كأنك قد خُلقتَ كما تشاءُ
ثانيا: عظمة العمل
ذلك من حيث المواهب التي اختص بها الله نبيه العظيم وحبا بها رسوله الكريم.. وأما من حيث عظمة العمل الذي قام به سيدنا محمد، فبربك قل لي: أي عمل أعظم من الرسالة العظمى والنبوة الكبرى والدعوة العامة والإصلاح الشامل لكل الأمم، بل للجن والإنس في كل ناحية من نواحي الحياة الدنيا وفي الآخرة؟
وأي أثر أخلد من القرآن الكريم والتشريع القويم الذي تركه النبي للإنسانية من بعده، نهتدي بهديه، ونسير على ضوئه، ونصلح بتعاليمه، ونلجأ إليه حين ييأس الناس مما في أيديهم ويفلسون من نظمهم وقواعدهم ؟{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت:53].
لو لم يكن للنبي من الفضل إلا أنه الواسطة في حمل هدية السماء إلى الأرض واتصال هذا القرآن الكريم إلى العالم، لكان فضلا لا يستقل العالم بشكره، ولا تقوم الإنسانية بكفائه، ولا يوفي الناس حامله بعض جزائه.
وناهيك بكتاب ضمن للناس إن اتبعوه صلاح الدنيا وسعادة الآخرة وعلاج المشكلات ودواء المعضلات، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.
وأنت إذا أمعنت النظر في كتاب الله تبارك وتعالى رأيته القانون الشامل والتشريع الكامل الذي ضمن للفرد حقوقه وحريته، وحدَّد له واجباته العامة والخاصة لله ولنفسه ولأسرته ولوطنه وللعالم كله، وضمن للأسرة سعادتها وهناءتها ببنائها على أفضل الأسس وأدق القواعد النفسية والاجتماعية، ووصف أحسن العلاج لما يطرأ على الأسر من عوامل الانحلال والفناء، مع بيان أفضل الوسائل في توثيق الروابط بين أفراد الأسرة الواحدة على أساس تقدير الجميل والتعاون على الخير، ووضع للأمة بعد ذلك أحكم النظم التي تبين صلة الحاكم بالمحكوم وتجعل الأمر شورى والناس سواسية، لا يتفاضلون إلا بأعمالهم، ولا يتفاوتون إلا بحقهم، مع بيان الصلة بين الأمم بعضها ببعض، ووجوب تعاون بني الإنسان علي خير البشرية العام، والرقي بمستواها إلى نهاية ما قدر لها من الكمال الممكن.
كل ذلك عرض له القرآن الكريم في لفظ بليغ وإيجاز محكم وجاءت السنة المطهرة ففصلت مجمَلَه، وحددت مطلقه، واستقصت جزئياته، فكان تشريع الإسلام ..أدقَّ تشريع وأكمله وأوفاه وأصلحه، مع سموه عن النقد وتجافيه عن الخطأ{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85].
فأي عمل أعظم من هذا؟ وأي أثر أخلد منه؟
ثالثا: منافعه وفوائده للبشرية
وأما من حيث ما أسداه إلى الإنسانية من فوائد، وحبا به العالم من المنافع فحسبك أن تعلم أنه صلى الله عليه وسلم المنقذ للبشرية مما ارتطمت به من أهوال وصروف في عصره الذي بعث فيه وفي كل عصر، وأن العالم كله لن يجد العلاج لمشاكله والحل لكل معضلاته إلا بما وضع الإسلام من دواء ووصف من علاج، ولو أن الناس كشفوا عن أعينهم غشاوة التعصب وطهروا قلوبهم من أدران الوهم؛ لعلموا أن كل مشكلات اليوم ـ بل كل مشكلات العالم ـ حلها الإسلام بأيسر الحلول، ووصف لها أنفع الأدوية، وليس بين العالم وبين الراحة والهناءة إلا أن يعمه تشريع الإسلام القويم، وسيخلص الناس من تجاربهم ـ إنْ بعيدًا وإنْ قريبًا ـ إلى هذه النتيجة ولتعلمن نبأه بعد حين.
وبعـدُ، فإن كانت العظمة بالتبريز في أساليب السياسة فإن نبينا ذلك السياسي الذي لم يخطئه التوفيق في موقف من مواقفه، مع الصدق والمناصحة والبعد عن المخادعة والنفاق.
ولئن كانت المهارة في قيادة الجيوش وإحراز أعظم النصر بأقل التضحيات فهذا شأنه صلى الله عليه وسلم في كل غزوة من غزواته أو سرية من سرايا جيشه المظفر.
ولئن كانت بقوة التأثير فإن تأثير النبي في أصحابه لم يَرَ التاريخ مثله في وقت من أوقاته، أو صفحة من صفحاته، وما رأت الدنيا جماعة من الجماعات سارت على هدي نبيها، أو اتبعت سنة قائدها كتلك الجماعة المؤمنة المخلصة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
وإنك لتقرأ كتاب العظمة فترى عظمة محمد أوضح سطوره، وأروع معانيه، فليعتز المسلمون بذلك، وليكن لهم في نبيهم العظيم أسوة حسنة.