السيرة النبوية هي دراسة حياة وسيرة أعظم نبي وأفضل مخلوق وُجد على ظهر هذه الأرض منذ آدم إلى يوم القيامة، وهي تعطينا صورة للمثل الأعلى والقدوة الحسنة في كل شأن من شؤون الحياة، وهي ترجمة عملية وصورة واقعية للإسلام وأحكامه، سواء ما كان منها متعلقًا بالعقيدة والعبادة، أو التشريع والأحكام، أو الأخلاق والمعاملات، قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَة}(الأحزاب:21). والكثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية لا يمكن فهمها فهماً صحيحاً بمَنْأى عن السيرة النبوية، ومن فوائد دراسة السيرة النبوية: معرفة العبادات وكيفيتها، وبداية تشريعها والتكليف بها، ومن ذلك الوضوء والصلاة، وهما من أوائل العبادات التي أُمِر وكُلِّف بها النبيُّ صلى الله عليه وسلم بعد الوحْي إليه وبعْثَتِه.
الوُضوء:
قال ابن حجر في "فتح الباري": "الوضوء بالضم هو الفعل، وبالفتح الماء الذي يُتوضأ به على المشهور فيهما، وحكي في كل منهما الأمران، وهو مشتق من الوضاءة، وسُمِّيَ بذلك لأن المُصَلِّي يتنظف فيصير وضيئا". ومن أوائل ما نزل من العبادات على النبي صلى الله عليه وسلم بعد بعثته: الوضوء، فعن زيد بن حارثة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن جبريل عليه السلام، أتاه في أول ما أُوحِيَ إليه، فعلمه الوضوء والصلاة) رواه أحمد وحسنه الألباني. وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال: (دخلت فاطمة رضي الله عنها على النبي صلى الله عليه وسلم وهي تبكي، فقالت: هؤلاء الملأ من قريش، قد تعاقدوا عليك لو قد رأوك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا بُنيَّة، ايتِيني بوَضوءٍ، فتوضأ ثم دخل عليهم المسجد) رواه أحمد. قال ابن حجر: "وهذا يصلح على مَنْ أنكر وجود الوضوء قبل الهجرة، لا على من أنكر وجوبه حينئذ".
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (سقَطت قِلادة لي بالبيداء ونحن داخلون المدينة، فأناخ رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزَل، فثنَى رأسه في حجري راقداً، وأقبل أبو بكر، فلكَزني لَكزةً شديدة، وقال: حبَسْتِ الناس في قِلادة، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم استيقَظ وحضَرت الصُّبح، فالتمَس الماء، فلم يَجده، فنزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}(المائدة:6) رواه البخاري.
وهذه الآية القرآنية بالإجماع مدنية أي نزلت بالمدينة المنورة، وفرْض الوضوء كان بمكة مع فرْض الصلاة، ولا إشكال في ذلك فهناك من الآيات ما تأخَّر حُكمه عن نزوله، وما تأخَّر نزوله عن حكمه، قال السيوطي في كتابه "الإتقان في علوم القرآن": "النوع الثاني عشر: ما تأخَّر حُكمه عن نزوله، وما تأخَّر نزوله عن حكمه.. ومن أمثلة ما تأخر نزوله عن حكمه: آية الوضوء (وذكر حديث عائشة رضي الله عنها وفقدها لقلادتها)". وقال ابن بطال في "شرح صحيح البخاري": "دليل أن الوضوء قد كان لازماً لهم قبل ذلك، وأنهم لم يكونوا يصلون بغير وضوء قبل نزول آية التيمم.. كما أنه معلوم عند جميع أهل السِيَر أن الصلاة فُرِضت بمكة.. وأنه لم يُصَلّ قط إلا بوضوء مثل وضوئه بالمدينة، ونزلت آية الوضوء ليكون فرضها التقدم متلوا في التنزيل.. والذى طرأ عليهم من العلم في ذلك حكم التيمم لا حكم الوضوء، وذلك رفق من الله بعباده أن أباح لهم التيمم بالصعيد عند عدم الماء".
وقال السيوطي في كتابه "لباب النقول في أسباب النزول": "قال ابن عبد البر: معلوم عند جميع أهل المغازي أنه صلى الله عليه وسلم لم يُصَلِّ منذ فُرِضَت عليه الصلاة إلا بوضوء، ولا يدفع ذلك إلا جاحد أو معاند.. والحكمة في نزول آية الوضوء مع تقدم العمل به ليكون فرضه متلوا بالتنزيل. وقال غيره: يحتمل أن يكون أول الآية نزل مُقدَّما مع فرض الوضوء ثم نزل بقيتها وهو ذكر التيمم في هذه القصة، قلتُ: الأول أصوب، فإن فرض الوضوء كان مع فرض الصلاة بمكة والآية مدنية".
بداية فرض الصلاة:
أجمع العلماء على أن الصلوات الخمس المعروفة بكيفيتها لم تُفرَض إلا في ليلة الإسراء والمعراج. فعن أنس بن مالك رضي الله عنه ـ في حديث الإسراء والمعراج المشهور ـ أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (فَأَوْحى اللَّهُ إليَّ ما أَوْحى ففرض عليَّ خمسين صلاة في كلّ يوم وليلة، فنزلتُ إلى موسى صلى الله عليه وسلم فقال: ما فرض ربُّك على أمّتك؟ قلتُ: خمسين صلاة، قال: ارجع إلى ربك فاسْأَلْه التَخْفيف.. قال: فَلَمْ أَزَلْ أرْجع بين رَبِّي تبارك وتعالى وبين موسى عليه السلام حتى قال: يا مُحَمَّد إِنَّهُنَّ خَمْسُ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ وليلة، لكلّ صلاة عشر، فذلك خمسون صلاة) رواه البخاري.
بداية فرض الصلاة كان في مكة قبل الهجرة النبوية، وكانت ركعتين أول النهار وركعتين آخره، فعن أنس رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى ليلة الإسراء ببيت المقدس ركعتين) رواه مسلم. كما ثبت أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالأنبياء إماماً قبل بداية المعراج الذي فرضت فيه الصلاة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي جَمَاعَةٍ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ ... فَحَانَتْ الصَّلَاةُ فَأَمَمْتُهُمْ) رواه مسلم. وعَنْ عائشة رضي الله عنها قالت: (فُرِضَتْ الصَّلَاةُ ركعتين، ثم هاجر النبي صلى الله عليه وسلم فَفُرِضَتْ أَرْبَعاً، وَتُرِكَتْ صَلَاةُ السَّفَرِ عَلَى الْأُولى) رواه مسلم.
قال ابن كثير: "أصل الصلاة كان واجبا قبل طلوع الشمس وقبل غروبها في ابتداء البعثة، فلما كان ليلة الإسراء قبل الهجرة بسنة ونصف، فرض الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم الصلوات الخمس، وفصَّل شروطها وأركانها وما يتعلق بها بعد ذلك، شيئا فشيئا، والله أعلم". وقال القرطبي في تفسيره لقول الله تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ}(غافر:55): "هي صلاة كانت بمكة قبل أن تفرض الصلوات الخمس ركعتان غدوة، وركعتان عشية، فيكون هذا مما نُسِخ، والله أعلم".
ولا وجه لاستشكال كيفية معرفة النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة في مكة قبل الإسراء والمعراج، لأن الصلاة كانت مفروضة على المسلمين من ابتداء الإسلام، ولذلك لما سأل هرقلُ أبا سفيان بماذَا يَأْمُرُكُمْ محمد صلى الله عليه وسلم؟ قال: (يَقُولُ: اعْبُدُوا اللَّهَ وحده ولا تُشْرِكوا بِهِ شَيْئا، وَاتْرُكوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بِالصلاة، والزَّكَاة، والصِّدْق، والعفاف، والصِّلَة) رواه البخاري. قال ابن رجب: "وفيه دليل على أن الصلاة شُرِعت من ابتداء النبوة، لكن الصلوات الخمس لم تفُرض قبل الإسراء بغير خلاف.. وهو يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أهم ما يأمر به أمته الصلاة، كما يأمرهم بالصدق". وقال ابن حجر: "فإنه صلى الله عليه وسلم كان قبل الإسراء يُصلِي قطْعاً، وكذلك أصحابه، لكنْ اخْتُلِفَ هَلْ اُفْتُرِضَ قَبْل الْخَمْس شَيْء من الصلاة أَمْ لا؟ فيصح على هذا قول من قال: إن الفرض أولا كان صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها، والحجة فيه قوله تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا}(طه:130)، وَنَحْوهَا مِنْ الْآيَات". وقال ابن تيمية: "وقد روي أن الصلاة أول ما فُرِضَت كانت ركعتين بالغداة وركعتين بالعشي، ثم فُرِضَت الخمسُ ليلة المعراج وكانت ركعتين ركعتين، فلما هاجر أُقِرَّت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر، وكانت الصلاة تُكْمَلُ شيئا بعد شيء، فكانوا أولا يتكلمون في الصلاة ولم يكن فيها تشهد، ثم أُمروا بالتشهد وحُرِّم عليهم الكلام".
السِّيرة النَّبوِيَّة يُراعى في كتابتها وتدوينها الزَّمن والتاريخ، بخلاف الكتابة والتدوين للسُنة والأحاديث النبوية، ومن هنا كانت أهميتها وأهمية دراستها فى استنباط التفسير والحكم الصحيح للكثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، ومعرفة العبادات وكيفيتها وبداية تشريعها والتكليف بها.