إذا أردنا أن نحكم على المنشئين بما انتهى إلينا من خطبهم ورسائلهم ومحاوراتهم ومصنفاتهم، وبدأنا بأهل القرن الأول للإسلام، نرى على رأسهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، فإنه سيد البلغاء على الإطلاق، وواضع بنيان البيان العربي، وكلامه كما قال العارفون: بعد كلام الله وكلام رسوله عليه الصلاة والسلام أبلغ كلام، ونهج البلاغة الذي جمعه الشريف الرضي من كلامه، وشرحه ابن أبي الحديد كتاب الدهر الخالد، وقد عد كثير من الصحابة أئمة في الكتابة والخطابة . راجع "إعجاز القرآن" للباقلاني و"الإتقان" و"المزهر" للسيوطي.
ولم يؤثر عن عصور الجاهلية خطب ورسائل كثيرة؛ لأن التدوين لم يحدث في الأمة العربية إلَّا في أوائل القرن الثاني للهجرة، وكانت العرب تعتمد على ذاكرتها ومحفوظها ورواياتها المتسلسلة، قال الرقاشي: ما تكلمت به العرب من جيد المنثور أكثر مما تكلمت به من جيد الموزون، فلم يُحفظ من المنثورعشره، ولا ضاع من الموزون عشره، ومعظم الذي أبقته الأيام من أدب العرب لم يبرح محفوظًا في الخزائن لم يُطبع، وأكثره محفوظ في جامعات أوروبا ودور كتبها.
خُتم القرن الأول بأمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز، فإن رسائله الموجزة وخطبه الغراء التي نقلها ابن سعد في "الطبقات الكبير"، وابن الجوزي في "مناقبه" آية في البلاغة، وفيها من أدب العرب مسحة وطلاوة، ورسائله وخطبه في الإدارة والسياسة على قلتها، تربي فيمن يتدبرها ملكة الإنشاء، وتقف به على أصول الإدارة العربية، ومن بلغاء هذا القرن زياد بن أبيه، والحجاج بن يوسف الثقفي، وقطري بن الفجاءة، وعمران بن حطان، وهذان الأخيران من خطباء الخوارج، وقد استغرقت أخبار الخوارج الذين خرجوا على الخليفة الرابع يوم النهروان، جزءًا مهمًّا من كتاب "الكامل" للمبرد، تتمثل بها بلاغة الفوضويين والعدميين في الإسلام.
جاء القرن الثاني وقد نبغ في أوله عبد الحميد بن يحيى الكاتب، وهو النهاية في البلاغة والفصاحة، اختط للناس خطة الترسل والإنشاء، ثم عبد الله بن المقفع الذي أسلست له الكتابة قيادها، فلم تعد له هنة واحدة في باب التكلف، بل كان في "اليتيمة" وسائر ما فاضت به قريحته من رسائله ابتداء، كما كان في ترجماته "كليلة ودمنة" طبقة عالية في البلاغة، ولو عمر بن المقفع (عاش ستًا وثلاثين سنة) لأبقى لنا أمثلة في البيان، يتخرج بها طلاب الأدب من العرب، على غابر الحقب، ونبغ في هذا القرن سهل بن هارون، وهو بالقليل الذي وصلنا من رسائله نابغة في علمه وأدبه، وناهيك بمن كان الجاحظ ينوه به، وينقل عنه في كتبه، وكان كثيرًا ما يؤلف الكتاب وينسبه لسهل بن هارون فيجمع الناس على استحسانه، أكثر مما كان لو نسبه لنفسه، وكتابة سهل من السهل الممتنع، لا حوشي فيها ولا مبتذل، أو كما قال الجاحظ في الكتاب: "إنهم قد التمسوا من الألفاظ ما لم يكن متوعرًا وحشيًّا، ولا ساقطًا سوقيًّا"، ومن خطباء هذا القرن داود بن علي وشبيب بن شيبة، ومن كتابه إسماعيل بن صبيح كاتب الرشيد، وعمر بن مطرف كاتب المنصور، والمهدي، والهادي، والرشيد، وصالح بن جناح صاحب كتاب "الأدب والمروءة"، وكلامه رشيق دقيق مستفاد في الحكمة.
وكان يقال: بلغاء الناس عشرة عبد الله بن المقفع، وعمارة بن حمزة، وخالد بن يزيد، وحجر بن محمد، وأنس بن أبي شيخ، وسالم بن عبد الله، ومسعدة، والهزبر، وعبد الجبار بن عدي، وأحمد بن عدي، وأحمد بن يوسف. قال صاحب "الفهرست": ومن البلغاء ... إبراهيم بن العباس الصولي، والحسن بن وهب، وسعيد بن عبد الملك، ولم يصل إلينا من كلام هؤلاء الجهابذة شيء يُذكر اللهم إلَّا ما عُرف من كلام ابن المقفع وأحمد بن يوسف والصولي، والباقون دثرت كتاباتهم إلَّا نتفًا قليلة لا يبنى عليها حكم.
ومن كتاب هذا القرن أبو إسحاق الكاتب إبراهيم بن محمد المدبر وزير المعتمد على الله المتوفى سنة 279 — صاحب النظم الرائق والنثر الفائق — وهو صاحب "الرسالة العذراء في موازين البلاغة وأدوات الكتابة" .
وامتاز القرن الثالث بظهور الجاحظ (255هـ)، الذي رزق الإجادة في كل ما كتب، وهو رب البديهة في أفكاره ومظاهر علمه وتقريره، ولم يُعهد قبله أن تبرز الموضوعات المختلفة في هذا القالب الفتان، الذي يُظهرها فيه غير متكلف ولا متعسف، وكلماته كلما كررتها حلت، وبقدر ما تتلوها تتجلى لك رقة معانيها ومتانة مبانيها، وتُدهش وأنت تطالع كلامه من تملكه ناصية اللغة، وبراعته في استعمال الألفاظ في أماكنها، وربما تساهل فأورد ألفاظًا عامية في معرض كلامه لينقل الأفكار بحالتها، ولم يكد يعهد مثله في المجودين من المؤلفين من يريك ببيانه الباطل حقًّا، والحق باطلًا، يقول الشيء ونقيضه، ويقنعك في الأول حتى لا تظنك تقنع بعد بكلام، ويرجع عليك بكلم طيب، فينسيك ما أصاب في الأولى، وهكذا يلعب بالعقول كالسحر، ولكنه السحر الحلال.
افتح أي كتاب من كتب الجاحظ التي أبقتها الأيام للمكتبة العربيَّة ذخرًا وفخرًا، تشهد العجب من تفننه وإبداعه، وتدرك كيف تستجيب له المعاني، وتنقاد الألفاظ برشاقتها وجزالتها، وقد يشوب كلامه ببعض الظرف والهزل والنوادر أحيانًا لئلا يمل مطالعه، هكذا تراه في "كتاب الحيوان" و"البيان والتبيين" و"البخلاء" و"المحاسن والأضداد" و"الحاسد والمحسود" وغيرها من رسائله، وهي بضع وعشر رسائل مطبوعة، وكل صفحة من صفحاتها أفيد من مجلد برمته.
وممن يجيء بعد الجاحظ أبو حنيفة الدينوري صاحب كتاب "الأخبار الطوال"، وأبو حنيفة أكثر ندارة، وأبو عثمان — الجاحظ — أكثر حلاوة، ومعاني أبي عثمان لائطة بالنفس، سهلة في السمع، ولفظ أبي حنيفة أعذب وأعرب، وأدخل في أساليب العرب، قال أبو حيان التوحيدي: والذي أقول وأعتقده وآخذ به وأساهم عليه، أني لم أجد في جميع من تقدم وتأخر إلَّا ثلاثة لو اجتمع الثقلان؛ على تقريظهم ومدحهم، ونشر فضائلهم في أخلاقهم وعلمهم ومصنفاتهم ورسائلهم لما بلغوا آخر ما يستحقه كل واحد منهم، وذكر الجاحظ والدينوري وثلَّث بأبي زيد أحمد بن سهل البلخي، ووصف كل واحد بألفاظ عجيبة.
ومما امتاز به هذا القرن أن علوم الأوائل التي بدئ بترجمتها في منتصف القرن الأول في دمشق، بمعرفة خالد بن يزيد الأموي، وعني بها عمر بن عبد العزيز أواخره، قد زادت العناية بها في بغداد على عهد المنصور العباسي، ثم بلغت أشدها في زمن المأمون، وقد أدخلت هذه العلوم والصناعات في العربية روحًا جديدًا، فتُرجم إليها من اليونانية والسريانية والفارسية والهندية وغيرها، فاغتنت اللغة ورأت من الأساليب والأفكار ما لا عهد لها به، وهذا أول تأثير من آداب الأمم الأخرى أصاب اللغة العربية، فأصبحت لغة علم وصناعة، بعد أن كانت لغة شعر وحكمة فقط، وعصر المأمون هو في الحقيقة العصر الذهبي في الأدب والكتابة والعلم وسائر مقومات الحضارة العربية.
قلنا: إن أحمد بن يوسف الكاتب هو من أوائل البلغاء، وقد أورد بعض رسائله الصولي في كتاب "الأوراق" المخطوط، وأورد له ابن طيفور صاحب "كتاب بغداد" المطبوع نموذجات من رسائله، وفي كتب التراجم المطولة شيء عن كتاباته المسجعة على مثال السجع، الذي يقع في كلام أئمة البلاغة في القرن الأول، وناهيك برجل أُعجب المأمون بعقله وأدبه فاستوزره واستكتبه، والكتاب المجودون في هذا القرن كثيرون، ومنهم عمرو بن مسعدة وزير المأمون، وكان كاتبًا بليغًا جزل العبارة وجيزها، سديد المقاصد والمعاني، وصدق عليه ما قاله الرشيد في البلاغة: "البلاغة التباعد عن الإطالة، والتقرب من معنى البغية، والدلالة بالقليل من اللفظ على الكثير من المعنى"، وأبو علي الدامغاني الوزير، وأبو الفتح البستي "صاحب الطريقة الأنيقة في التجنيس النفيس البديع التأسيس".
ومن أهم من انتشرت كتبهم ابن قتيبة (276)، فهو ثاني الجاحظ بعلمه وجودة إنشائه وتأثيره، وفي كتابه "الإمامة والسياسة" و"كتاب العرب و"مختلف تأويل الحديث و"الأشربة" و"المعارف" و"عيون الأخبار" و"أدب الكاتب" ما يدل على روح سام، سار فيه الأدب مع العلم سيرًا متساوقًا. ويُعد من كتاب الدرجة الأولى في القرن الرابع أحمد بن يوسف المعروف بابن الداية (340)، بغدادي الأصل، انتقل أبوه إلى مصر، وكان أحمد من كتاب الدولة الطولونية، وقد عرفناه من كتاب "المكافأة" الذي نُشر له مؤخرًا مع قطعة من كتابه "حسن العقبى"، وهي عبارة عن حكايات فيها حكمة ومواعظ واعتبار؛ آية في البلاغة، ومنهم أبو بكر الصولي (335) صاحب كتاب "الأوراق" و"أدب الكتاب"، وأحمد بن عبد ربه (328) صاحب "العقد الفريد"، وجعفر بن قدامة ابن زياد الكاتب (319)، وعرفنا من أهل هذا القرن زمرة من الكُتَّاب الذين زانوه بأقوالهم وأفضالهم، ومنهم أبو الفضل بن العميد وزير بني بويه (360)، وكان أبوه أيضًا كاتبًا مترسلًا من كُتَّاب الدولة السامانية، وابن العميد أول من فتح باب السجع، وأكثر من أنواع البديع، وكان يقال: فتحت الرسائل بعبد الحميد، وختمت بابن العميد. كما قيل: بدئ الشعر بملك؛ أي امرئ القيس، وختم بملك؛ أي أبي فراس الحمداني. وما قيل في ابن العميد يقال في الصاحب بن عباد (387)، فهو أيضًا ممن تناغى بالجناس، وأكثر من الأسجاع، وكان يقول: كُتَّاب العصر أربعة: الأستاذ الرئيس يعني ابن العميد، والأستاذ أبو القاسم يعني عبد العزيز بن يوسف، وأبو إسحاق يعني الصابي، ولو شئت لذكرت الرابع يعني نفسه.
ويجيء مع هذه الطبقة أبو بكر الخوارزمي (383)، وكان يميل إلى طريقة ابن العميد في الكتابة، و"رسائله" المطبوعة المشهورة مثال البلاغة والفصاحة على كثرة الأسجاع فيها حتى لا يكاد يعدوها، وقلَّما تفوته.
وأما بديع الزمان الهمذاني (398) صاحب "الرسائل" و"المقامات" المشهورة، فإنه سار مع الطبع أكثر من الخوارزمي، وكثيرًا ما يترك التسجيع وأنواع البديع، وإذا استعملها ففي مواطن خاصة وجمل معينة، ثم يعود إلى طبعه فتأخذ أقواله بمجامع القلوب، وأكثر ما قرأناه من "رسائل الصابي" (384) الصادرة عن الخلفاء وغيرهم، ومنها ما طُبع على حدة، ومنها ما اقتبس في "صبح الأعشى"، قد أُفرغ في قالب من السجع البديع المستملح، وقد يتخلى عنه في بعض التقاليد والعهود، ولو تيسر له أن يطرح السجع على طريقة البديع، لجاءت كتاباته مفخر الأسلاف، وأعظم معلم للأخلاف.