دين الإسلام مصلحة كله، وحيثما كانت المصلحة فثم شرع الله.. والإسلام كله مبني على الحكمة وإرادة المنفعة للناس؛ قال الإمام البيضاوي في كتاب المنهاج: "إن الاستقراء دل على أن الله سبحانه شرع أحكامه لمصالح العباد"(ص:233)، والفقه الحقيقي هو معرفة هذه الحكم والتضلع بهذه المقاصد؛ قال ابن تيمية رحمه الله: "من فهم حكمة الشارع كان هو الفقيه حقا"، وقال أيضا: "خاصة الفقه في الدين معرفة حكمة الشريعة ومقاصدها ومحاسنها" (الفتاوى:11/354).
وإدراك مقاصد العبادات وحِكَمها يهون العبادة على ملتزميها؛ كما أنهم يعيشون روحها ومعانيها، فلا تؤدى على أنها عادات وتقاليد موروثة لا يشعرون بلذتها وحلاوتها ولا يستفيدون مراد الشارع فيها.
قال الشيخ مصطفى السباعي عن ذلك: "ليكون أوقع في النفس وأعمق في الأثر، وليكون المؤمن أكثر اطمئنانا للعبادة حين يؤديها وللتشريع حيث ينفذه".
والصيام أحد شعائر هذه الشريعة المباركة، وقد تكلم العلماء في حكمة فرض الله له فذكروا من مقاصد الصوم وحكمه بعض ما بدى لهم وظهر، وإلا فإن العقول عاجزة عن الإحاطة بحكمة الحكيم ولطف اللطيف الخبير سبحانه جل في علاه.. فكان مما ذكره العلماء من الحكم:
أولا: مواساة المحرومين والتكافل بين المؤمنين:
ذكر الإمام ابن رجب في كتابه لطائف المعارف ص 314 عن بعض السلف أنَّه سئل: "لِمَ شُرِع الصيام؟ فقال: ليذوق الغني طعم الجوع فلا ينسى الجائع".
وحينما سئل يوسف عليه السلام: لم تجوع وأنت على خزائن الأرض؟ قال: أخاف أن أشبع فأنسى الجائع". فإنما يعرف ذوق التعب من نازله، ويعرف قدر الألم من كابده:
لا يعرف الشوق إلا من يكابده .. .. ولا الصبابة إلا من يعانيها.
ولهذا كان من مقاصد الصيام الجليلة أنَّ فيه تجربة لمقاساة الحرمان والجوع، وغرس الرحمة بطريق عملي في قلوب أغنياء المسلمين نحو فقرائهم، فيتذكُّر الموسرون إخوانهم الفقراء الذين يقاسون الحرمان أبد الدهر، ويقفون على حقيقة معاناتهم وآلامهم، فتسارع الرقة إلى قلوبهم، وتتهيأ أنفسهم لمواساة الفقراء بالمال والإطعام والتصدق والبذل والجود والإحسان، وهذا من أعظم التكافل الاجتماعي الذي يسبب التآلف بين المسلمين، وتوثيق الروابط بين الأبناء المجتمع.
ثانيا : إدخال العزاء والسلوى على قلوب الفقراء
بما يرون من مشاركة الأغنياء والأثرياء في الحبس عن الطعام والشراب والامتناع عن الملذات، وليس أدخل للسلوى على قلب المعدم البائس من وقوفه مع الغني موقف المساواة ولو ساعة من نهار.
ثالثا: القبض على زمام الشهوة من الوقوع في الآثام
فإن المرء ربما تاقت نفسه إلى النساء ولا يجد طولا، ويخشى العنت، فيكسر حدة شهوته بالصوم، ولذلك قال النبي صلى لله عليه وسلم للشباب: (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أعف للبصر وأحفظ للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء) أي قاطع للشهوة.
رابعا: الشعور بفقر العبودية وحاجتها
فإن تألم النفس لحبسها عن الطعام يشعرها بضعفها وذلتها وحاجتها فتسكن إلى ربها خاشعة، وتقف على مقدار ضعفها وعجزها، وترى كيف ضعفت قواها ووهنت للقمة من طعام فاتتها وشربة من ماء تأخرت عنها، والعبد إذا لم ير ذل نفسه استحال أن يرى عظمة مولاه، فإن "من عرف نفسه عرف ربه".. أي من عرف نفسه بالضعف والفقر والحاجة عرف ربه سبحانه بالقوة والغنى والعزة.
خامسا: إضعاف تأثير الشيطان على الصائم:
فإن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، فإذا صام المسلم ضيق علىه مجاريه؛ فلم يستطع أن يؤثر عليه أو يوسوس إليه كما كان في فطره وشبعه.. وفي هذا إعانة للعبد على أن يملك زمام نفسه، والسعادة كلها في ذلك، كما أن الشقاوة كل الشقاوة أن تملكه نفسه.
قال ابن القيم : "الصوم يحفظ على القلب والجوارح صحتها، ويعيد إليها ما استلبته منها أيدي الشهوات". (زاد المعاد2/29).
ويقول الإمام الكمال بن الهمام في فتح القدير: "الصوم يسكن النفس الأمَّارة بالسوء ويكسر سورتها في الفضول المتعلقة بجميع الجوارح من العين واللسان والأذن والفرج؛ ولذلك قيل: إذا جاعت النفس شبعت جميع الأعضاء، وإذا شبعت جاعت كلُّها".
سادسا: تعود الصبر على المكاره والثبات عند الشدائد
فإن الصائم يكلف نفسه البعد عن كل ما تشتهي مما منعه منه الصيام ـ وإن كان حلالا في غيره ـ فهو يزود المسلم بعزم قوي وصبر حسن، خصوصا عند آخر اليوم وشدة الجوع والعطش ووجود الماء والطعام، ومع ذلك لا يميل إليه ولا تحدثه نفسه بتناوله مهما تاقت له تصبرا واحتمالا وطلبا لثواب الله رب العالمين. ولذلك قيل "إن الصوم نصف الصبر".
سابعا: تذكير العبد بالفارق بين ذل العبودية وعز الربوبية
لأن الصيام يذكر الإنسان بحاجته للطعام والشراب وعدم استغنائه عن ذلك؛ فيرفع عنه رداء الكِبْر والفخر والخيلاء، ويصيره خاضعا لخالفه ورازقه، فلا يطمع أحد بعد ذلك في التبجح بألوهية أو ادعاء ربوبية كما قال فرعون والنمرود وأشباههم، ولذلك احتج الله على من اتخذ عيسى وأمه إلهين فقال: {ما المسيح بن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام}(المائدة:75) فهما محتاجان إليه ذليلان به، ولا يكون الإله محتاجا ذليلا. وإنما أحد فرد صمد غني عن كل من سواه، وكل من سواه فقير محتاج إليه كما قال سبحانه {يأيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد . إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد . وما ذلك على الله بعزيز}(فاطر:15).
ثامنا: تحصيل التقوى:
وهذا هو المقصد الأسمى والأعلى من حكمة مشروعية الصيام.. وهو الوصول بالصائمين إلى مرتبة المتقين.. والصيام من أعظم العبادات التي يتدرب بها على الوصول لهذه المرتبة العظيمة.. وكل ما في الصيام يوصل إليها، إذا صام الإنسان حق الصيام..
وإذا كانت التقوى هي: "الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والاستعداد ليوم الرحيل" كما قال عليّ رضي الله عنه.. فإن الصائم قد جمع له ذلك كله، فصام خوفا من الله، ولولا هذا الخوف لأفطر وما صام.. والصوم عمل بكتاب الله وطاعة لأمره وإذعان لشرعه .. وكل هذا من الاستعداد ليوم القيامة و(من صام يوما في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفا).. ولا شيء يصل ثوابه لثواب الصوم كما في الحديث (والصوم لي وأنا أجزي به).. فلا يستعد ليوم المعاد بمثل عبادة الصوم.
وإذا كانت التقوى هي: "العمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وأن تدع معصية الله على نور من الله تخشى عقاب الله" كما قال طلق بن حبيب رحمه الله.. فإن الصائم قد توفَّر له ذلك أيضا: فالصوم طاعة لله، والالتزام بوقت الصوم الذي حدده الشارع هو الضابط، وإنما ذلك كله رجاء ثواب الله.. وفي الصوم ترك لكل ما يغضب الله ويفسد الصيام ويجرحه، خوفا من ضياع الصوم وخشية من عقاب الرب.
وأعظم دلالات التقوى في الصيام أن العبد لا يفطر بلا عذر وإن تعرض للعقوبة أو الضرب تعظيما لأمر الله. وأعظم من ذلك دلالة ما ذكره ابن رجب وغيره أن من علامات الإيمان أن يكره المؤمن ما يلائمه وتهواه نفسه من طعام وشراب وشهوة، لأنه يعلم أن الله يكرهه في هذا الوقت، ثم يحبه ويقبل عليه في الوقت الذي أباحه الله له فيه. فليس شيء أدل على التقوى من هذا، ولا أكبر منه إلا ترك كل هذه المشتهيات عند الاختفاء عن أعين الناس مراقبة لعين الله سبحانه.. وهذا هو مقام الإحسان.. أن تعبد الله كأنك تراه.. فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
وباب الحكمة من الصيام ومقاصده باب واسع جدا.. وهو متسع لكل من يلج..
فاللهم علمنا وفهمنا وتقبل منا يا أرحم الراحمين.