اختار الله مكة أم القرى لتكون المحطة الأخيرة من محطات الرسالات السماوية، ولتكون منطلق نور السماء إلى الأرض ومركز الهداية للعالمين، والتي اختار نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم ليكون المبلغ لها، وليكون مبعث النور في الأرض، ومركز هذا النور من جوار الكعبة بيت الله الحرام.
جاءت رسالة الإسلام ومكة مركز دين العرب، وأهلها هم المتصدرون للزعامة الدينية في جزيرتهم، فهم سدنة الكعبة والقائمون على الأوثان والأصنام، التي كانت مقدسة عند سائر العرب في ذلك الزمان، والضامنون لحفظ كيانها والدفاع عنها وعن كل موروثات الآباء والأجداد، فلم يكن من المتوقع أو السهل أن يقبلوا بأي وارد ينازعهم تلك المكانة، أو يذهب مقامهم عند العرب؛ فلم يكن من الحكمة أن يجهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدعوته بداية، بل أوجبت الحكمة أن تكون الدعوة في بدء أمرها سرية؛ لئلا يفاجئ أهل مكة بما يهيجهم ويثيرهم على الدين الجديد والداعي إليه والمتبعين له.
وبالفعل بدأ رسول - صلى الله عليه وسلم - بالدعوة للإسلام سرا، وذلك بعرض الإسلام أولاً على أقرب الناس إليه، وألصقهم به، فدعا آل بيته وأصدقاءه ممن يعرفهم ويعرفونه، يَعرِفهم بحب الحق والخير، ويعرفونه بالصدق والصلاح، فأجابه من هؤلاء جَمعٌ عرفوا في التاريخ الإسلامي بالسابقين الأولين، وفي مقدمتهم زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أم المؤمنين خديجة - رضي الله عنها -، ومولاه زيد بن حارثه وابن عمه على بن أبى طالب، والصديق أبو بكر - رضي الله عنهم، أسلم هؤلاء في أول يوم من أيام الدعوة وكان إسلامهم فاتحة خير على الإسلام ودعوته.
ثم نشط أبو بكر في الدعوة إلى الإسلام، وكان رجلاً محبوباً، صاحب خلق وإحسان، فدعا من يثق به سراً، فأسلم بدعوته عثمان بن عفان والزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبى وقاص، وطلحة بن عبيد الله - رضي الله عنهم -.
واستمر النبي الكريم في الدعوة السرية يستقطب الأتباع والأنصار من أقاربه وأصدقائه بصورة سرية تامة بعد إقناعهم بالإسلام، وهؤلاء كانوا نعم العون والسند لرسول الله لتوسيع دائرة الدعوة في نطاق السرية، فقد سارع كل واحد منهم إلى دعوة من يطمئن إليه ويثق به، فأسلم على أيديهم جماعة من الصحابة، وهم من جميع بطون قريش، وهؤلاء هم أوائل السابقين الأولين الذين جاء ذكرهم في قوله - تعالى -: {والسابقون الأَولون مِن المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضُوا عنه} (التوبة: 100).
إلى دار الأرقم
كانت هذه المرحلة مرحلة عصيبة من حياة دعوة النبي ظهرت فيها المشقة له ولأتباعه؛ لأنهم لم يكونوا يخاطبون إلا من يأمنون شره ويثقون به؛ لذا تميزت هذه المرحلة بالكتمان والسرية حتى من أقرب الناس، وكانت الأوامر النبوية على وجوب المحافظة على السرية واضحة وصارمة، وتجنب المواجهات والصدامات والمهاترات التي قد تعصف بالدعوة من أساسها. وكان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يأمر أصحابه بالاستخفاء أثناء تأدية الصلاة (الشعيرة الوحيدة حينئذ)، وكان الصحابة يجتمعون فى شعاب مكة للصلاة حيث لا يراهم أحد، وحدث ذات يوم أن رآهم مجموعة من المشركين، فدار بين الفريقين حوار انتهى بشجار سالت فيه الدماء، عندما ضرب سعد بن أبي وقاص رأس أحد المشركين بلحي بعير فشجها.. وعندها أصدر الرسول – صلى الله عليه وسلم – أوامره بدخول دار الأرقم بن أبي الأرقم لتكون دارا للإجتماعات ومحضنا تربويا ومدرسة لتعاليم النبوة.
لماذا دار الأرقم؟
كان اختيار دار الأرقم دليلا على فطنة وذكاء النبي – صلى الله عليه وسلم – وذلك لعدة أسباب منها:
. الموقع الاستراتيجي لدار الأرقم فهي تقع قريبا من جبل الصفا فى موضع مشرف على مكة وبعيدا عن عيون أهل مكة وتحركاتهم، التى أخذت ترقب تجمعات المسلمين بعد الصدام الذي وقع.
. صغر سن الأرقم بن أبي الأرقم صاحب الدار، إذ كان شابا فى السادسة أو السابعة عشرة، ولم يستعلن بإسلامه، مما جعل الشكوك تنصرف عنه، لأن قريشا إذا فكرت فى مركز تجمع المسلمين فلن يذهب فكرها لبيت شاب حديث عهد بعرس كما وردت بعض الروايات بذلك، بل ستتجه أنظارها نحو بيت النبي – صلى الله عليه وسلم – أو أبي بكر أو عثمان أو عبد الرحمن بن عوف وغيرهم من كبار الصحابة.
. الأرقم من قبيلة بني مخزوم، وهي القبيلة المنافسة لبني هاشم بينهما منافرات ومفاخرات ومشاهد كثيرة، وبالتالي لن يفكر المشركين فى اختيار الرسول – صلى الله عليه وسلم – لدار منافسه القبلي حتى تكون مركز للاجتماعات النبوية.
وهذا الاختيار الذكي والعبقري لهذه الدار من أهم اسباب نجاح الدورات التربوية والإيمانية المكثفة خلال تلك الفترة، حيث لم يؤثر اى مشاكل أمنية أو مضايقات قريشية على أهل وزوار الدار.
فى دار الأرقم
وهناك في دار الأرقم ـ التى اعتبرت مدرسة النبوة الأولى ـ اتبع النبي – صلى الله عليه وسلم – منهجا فريدا فى بناء لبنات الأمة الإسلامية الأولى، وهو بناء الأشخاص الذين سيحملون هم هذه الأمة ويرسون دعائمها، وذلك من خلال ما يأتي:
ـ التركيز على بناء الجانب العقدي وركائز التوحيد ومعاني الإيمان فى قلوبهم، ونستطيع أن نجمل أهم الركائز التربوية فى مدرسة النبوة الأولى – دار الأرقم – فى عدة محاور وهي:
ـ تصحيح التصورات الخاطئة عن الله – عز وجل – والكون ووظيفة الخلق، فلقد رباهم – صلى الله عليه وسلم – على معرفة ربهم ومعبودهم الحق، على معرفة أسمائه وصفاته، على معرفة ما حق الله عليهم عز وجل.
ـ التأكيد على محور الإيمان بالغيب الذي يمثل ركيزة أساسية فى البناء العقدي ومفتاح الإيمان الرئيسي والذي به يؤمن العبد بالحساب والجزاء واليوم الآخر والجنة والنار والملائكة والأنبياء والكتب.
ـ الفهم الصحيح والشامل والراسخ بالقضاء والقدر رباهم الرسول – صلى الله عليه وسلم – على الفهم الصحيح والشامل والراسخ بالقضاء والقدر وأثره فى القلب والنفس وحياة الأمة المسلمة، ولقد ظهر أثرا هذه الركيزة تحديدا فيما عندما بدأت وصلات التعذيب والتنكيل والاضطهاد.
ـ رباهم على معرفة حقيقة الإنسان وقدره ومكانته فى الكون وفى منظومة الخلق، وأجاب لهم على كل تساؤلات الفطرة، وعلاقة الإنسان بربه عز وجل وبالكون كله، وأن الأصل فى الإنسان التوحيد والفطرة.
ـ رباهم على تعظيم أوامر الله – عز وجل – والاستجابة لها ومعرفة قدرها، والقيام بواجب العبادة المفروضة وقتها – الصلاة – وتعظيمها، وأن العبادة هي غاية الخلق وسبب وجودهم.
ـ رباهم على تزكية أخلاقهم، وتأديب نفوسهم، وتطهير قلوبهم من أدران الجاهلية التى كانت تعج بالمنكرات ورذائل الأخلاق وسيء العادات، من خلال ربط أخلاقياتهم وسلوكياتهم بالإيمان والثواب والعقاب.
ـ رباهم على معرفة عدوهم الحقيقي وقدر عداوته وسببها وطبيعتها وذلك من خلال سرد أخبار الأولين وقصص المرسلين وعاقبة المكذبين ومصير المتقين.
وقد اتبع الرسول – صلى الله عليه وسلم – من أجل الوصول لتلك المعاني الإيمانية والركائز التربوية منهجا موحدا فى التربية والتعليم يعتمد على مادة دراسية علمية واحدة وهي مادة القرآن الكريم، وحي السماء الذي كان غضا طريا على قلوب الصحابة بردا وسلاما، وهداية وإرشادا وتقويما وتعليما، لذلك كان تلاميذ مدرسة النبوة الأولى – دار الأرقم – هم أعظم رجال الإسلام، وبناة الأمة وحماتها، وطليعة الصفوف، وصفوة المسلمين وخلاصة المؤمنين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
المصادر:
. الرحيق المختوم.
. السيرة النبوية للصلابي.
. في مدرسة النبوة شريف عبدالعزيز.