فإن من أعظم وأهم أسباب قوّة قلب العبد ورسوخ يقينه، وسلامة صدره، وتمام رضاه؛ الاستسلام لله -عز وجل- في أمره ونهيه، وقضائه وقدره، فالكون كونه، والخلق خلقه، وهو المالك على الحقيقة، وغيره مملوك، وهو الرب المتصرف بالتدبير والتقدير، وغيره مربوب. ومن غابت عنه هذه الحقيقة لم يصمد قلبه أمام أي فتنة أو ابتلاء، ومن سلم لله في كل أمره فقد حصل عز الدنيا وجنة الآخرة.
فالتسليم هو روح الإسلام، بل هو الإسلام نفسه، يقول الله - سبحانه وتعالى- عن إبراهيم عليه السلام: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}[البقرة:131].
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله ورضي عنه: “إن مبنى العبودية والإيمان بالله، وكتبه، ورسله على التسليم، وعدم الخوض في تفاصيل الحكمة في الأوامر، والنواهي، والشرائع".
وكما يكون التسليم لله في أمره وحكمه وشرعه، كذلك يكون التسليم لله في خبره، والرضا بما أخبر به عن نفسه وأخبر عنه به رسوله الكريم، وهذا الباب زلت فيه أقدام وطاشت فيه عقول وأفهام، ووقع فيه كثير من أرباب الفلسفة والكلام؛ ولذلك نبه عليه أئمة السلف رحمهم الله منذ القدم كما قال الإمام نعيم بن حماد شيخ البخاري رحمهما الله: "من شبه الله بخلقه كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه ولا وصفه به رسوله تشبيه".
والعصمة النافعة في هذا الباب أن يوصف الله بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم- من غير تحريف، ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، بل يثبت له الأسماء والصفات، وينفي عنه مشابهة المخلوقات، فيكون إثباتا منزهاً عن التشبيه ونفيا منزهاً عن التعطيل، فمن نفى حقيقة الاستواء فهو معطل، ومن شبهه باستواء المخلوقات على المخلوق فهو مشبه، ومن قال: هو استواء ليس كمثله شيء فهو الموحد المنزه".
قال الإمام الطحاوي رحمه الله: "ولا تثبت قدم الإسلام إلا على ظهر التسليم والاستسلام".
فباب السلامة في هذا الأمر هو التسليم لله تعالى ولرسوله، وعدم معارضة الله تعالى بعقل قاصر، أو عرض النصوص على العقليات التي هي في الحقيقة جهليات.. والذين سلكوا هذا المسلك وقعوا في حيرة كبيرة كاد أكثرهم ألا يسلم منها، كما قال صاحب الطحاوية: "فمن رام علم ما حظر عنه علمه، ولم يقنع بالتسليم فهمه، حجبه مرامه عن خالص التوحيد، وصافي المعرفة، وصحيح الإيمان؛ فيتذبذب بين الكفر والإيمان، والتصديق والتكذيب، والإقرار والإنكار، موسوسا تائها، شاكا زائغا، لا مؤمنا مصدقا، ولا جاحدا مكذبا".
فقال الشارح: "يتذبذب: يضطرب ويتردد".. وقد نقل من كلام أكابرهم ما يدل على ذلك التذبذب وذلك التردد والاضطراب، وكيف آل الأمر بكثير منهم إلى الحيرة والضلال والشك، كما قال ابن رشد الحفيد، وهو من أعلم الناس بمذاهب الفلاسفة ومقالاتهم، في كتابه (تهافت التهافت): "ومن الذي قال في الإلهيات شيئا يعتد به؟
وكذلك الآمدي، أفضل أهل زمانه، واقف في المسائل الكبار حائر.
وكذلك الغزالي رحمه الله، انتهى آخر أمره إلى التوقف والحيرة في المسائل الكلامية، ثم أعرض عن تلك الطرق وأقبل على أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، فمات والبخاري على صدره.
وكذلك أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي، قال في كتابه الذي صنفه في أقسام اللذات:
نهـــاية إقــدام العــقول عـــقــــال .. .. وغـاية سعي العالمين ضـلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا .. .. وحـاصل دنيـانا أذى ووبــال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا .. سوى أن جمعنا فـيه قـيل وقالوا
وكــم قـد رأيـنا من رجال ودولة .. .. فبادوا جميعا مسرعين وزالوا
وكــم من جبال قد علت شرفاتها .. .. رجــال، فـزالوا والجبال جبال
ثم قال: لقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلا، ولا تروي غليلا، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، اقرأ في الإثبات: {الرحمن على العرش استوى}(طه:5) {إليه يصعد الكلم الطيب}(فاطر:10). واقرأ في النفي:{ليس كمثله شيء}(الشورى:11) {ولا يحيطون به علما}(طه:110). ثم قال: (ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي).
وكذلك قال الشيخ أبو عبد الله محمد بن عبد الكريم الشهرستاني، أنه لم يجد عند الفلاسفة والمتكلمين إلا الحيرة والندم، حيث قال:
لعمري لقد طفت المعاهد كلها .. .. وسيرت طرفي بين تلك المعالم
فلــم أر إلا واضعا كف حائر .. .. على ذقــنه أو قارعـا ســن نادم
كذلك قال أبو المعالي الجويني: يا أصحابنا لا تشتغلوا بالكلام، فلو عرفت أن الكلام يبلغ بي إلى ما بلغ ما اشتغلت به.
وقال عند موته: لقد خضت البحر الخضم، وخليت أهل الإسلام وعلومهم، ودخلت في الذي نهوني عنه، والآن فإن لم يتداركني ربي برحمته فالويل لابن الجويني، وها أنا ذا أموت على عقيدة أمي، أو قال: على عقيدة عجائز نيسابور.
وكذلك قال شمس الدين الخسروشاهي ـ وكان من أجل تلامذة فخر الدين الرازي ـ لبعض الفضلاء، وقد دخل عليه يوما، فقال: ما تعتقد؟ قال: ما يعتقده المسلمون، فقال: وأنت منشرح الصدر لذلك مستيقن به؟ أو كما قال، فقال: نعم، فقال: اشكر الله على هذه النعمة، لكني والله ما أدري ما أعتقد، والله ما أدري ما أعتقد، والله ما أدري ما أعتقد، وبكى حتى أخضل لحيته.
قال الخونجي عند موته: ما عرفت مما حصلته شيئا سوى أن الممكن يفتقر إلى المرجح، ثم قال: الافتقار وصف سلبي، أموت وما عرفت شيئا.
وقال آخر: أضطجع على فراشي وأضع الملحفة على وجهي، وأقابل بين حجج هؤلاء وهؤلاء حتى يطلع الفجر، ولم يترجح عندي منها شيء.
ومن يصل إلى مثل هذه الحال إن لم يتداركه الله برحمته وإلا تزندق، كما قال أبو يوسف: من طلب الدين بالكلام تزندق، ومن طلب المال بالكيمياء أفلس، ومن طلب غريب الحديث كذب.
وقال الشافعي رحمه الله: حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال، ويطاف بهم في القبائل والعشائر، ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام.
وقال: لقد اطلعت من أهل الكلام على شيء ما ظننت مسلما يقوله، ولأن يبتلى العبد بكل ما نهى الله عنه - ما خلا الشرك بالله - خير له من أن يبتلى بالكلام. انتهى.
وتجد أحد هؤلاء عند الموت يرجع إلى مذهب العجائز، فيقر بما أقروا به ويعرض عن تلك الدقائق المخالفة لذلك، التي كان يقطع بها، ثم تبين له فسادها، أو لم يتبين له صحتها، فيكونون في نهاياتهم - إذا سلموا من العذاب - بمنزلة أتباع أهل العلم من الصبيان والنساء والأعراب.
والدواء النافع لمثل هذا المرض، هو قول خالق الخلق الذي هو أعلم بهم، ومالك القلوب وأعلم بما يصلحها ويهديها: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}(النساء:65). صدق الله العظيم.