لا يَخْفى على مُسْلم المنزلة العالية الرفيعة التي أعطاها ربنا عز وجل لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فقد اصطفاه على جميع البشر، وفضَّله على جميع الأنبياء والرسل، وبعثه رحمة للعالمين، قال الله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ}(البقرة: 253)، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}( الأنبياء:107). قال السعدي: "فكل الأنبياء لو أدركوا محمداً صلى الله عليه وسلم لوجب عليهم الإيمان به واتباعه ونصرته، وكان هو إمامهم ومقدمهم ومتبوعهم". وقال القاضي عياض: "تقرر من دليل القرآن وصحيح الأثر وإجماع الأمة كونه صلى الله عليه وسلم أكرم البشر وأفضل الأنبياء". وقال ابن كثير: "فهو صلوات الله وسلامه عليه خاتم الأنبياء، وسيد ولد آدم في الدنيا والآخرة، قَطْعاً جَزْماً لا يحتمل النَّقِيض".
وقد أوجب الله وتعالى للنبي صلى الله عليه وسلم حقوقًا كثيرة على أمته، بَيَّنها الله تعالى في كتابه الكريم، وبيَّنها النبي صلى الله عليه وسلم في سنته الْمُطَهَّرَة، وهي كثيرة، منها: الإيمان الصادق به، ومحبته أكثر من النفس والأهل والمال والولد والناس جميعا، والأدب معه، وتعزيره وتوقيره ونصرته، وطاعته وعدم مخالفة أمره، واتباعه واتخاذه قدوة وأسوة في جميع الأمور، والصلاة عليه، وإنزاله مكانته بلا غلو ولا تقصير فهو عبد لله ورسوله، وهو أفضل الأنبياء والمرسلين.
وكذلك من حقوقه علينا صلوات الله وسلامه عليه: تصديقه في كل أخبرنا به، فإنَّ ما جاء على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم فبوَحْي من الله تعالى، وقد قال الله عز وجل عنه: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}(النجم:4:3)، قال السعدي: "أي: ليس نطقه صادرا عن هوى نفسه، {إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى} أي: لا يتبع إلا ما أوحى الله إليه من الهدى والتقوى، في نفسه وفي غيره، ودل هذا على أن السُنة وحي من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: {وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ}(النساء:113)، وأنه معصوم فيما يخبر به عن الله تعالى وعن شرعه، لأن كلامه لا يصدر عن هوى، وإنما يصدر عن وحي يوحى". وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: (كنتُ أَكتُبُ كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه، فنهتني قريش (المسلمون من قريش)، وقالوا: أَتكتُبُ كل شيء تسمعه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر يتكلم في الغضب والرضا؟ فأمسكْت (امتنعت) عن الكتاب، فذكرتُ ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأَوْمأَ (أشار) بأُصبُعِه إلى فيه، فقال: اكتُبْ، فوالَّذي نفْسي بيدِهِ، ما يَخْرُج منه إلَّا حق) رواه أبو داود وصححه الألباني.
والسيرة النبوية فيها الكثير من المواقف والأحداث الدالة على قيام الصحابة رضوان الله عليهم بهذا الحق النبوي، وهو تصديقه فيما أخبرهم به، وإن كان يتعارض مع عقولهم ونفوسهم، ومن ذلك:
ـ معجزة ورحلة الإسراء والمعراج:
انقسم أهل مكة مع إخبار النبي صلى الله عليه وسلم لهم برحلة ومعجزة الإسراء والمعراج إلى ثلاثة أقسام: الأول: كفار مكة الذين ازدادوا كفراً إلى كفرهم، بعد إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بما حدث معه في الإسراء والمعراج، وكان على رأس هؤلاء أبو جهل، والقسم الثاني: مجموعة من المسلمين الذين لم يستوعبوا معجزة الإسراء والمعراج، فارتدوا بعد إيمانهم كفاراً، وهؤلاء كانوا قلة حديثي عهدٍ بالإسلام، ولم يستقر الإيمان في قلوبهم، ولو كانوا كثرة أو كانوا من الصحابة المعروفين، لأحدثوا هزَّة في مكة، وهذا لم يحدث، كما أن الكفار لم يذكروا أمرهم، ولم يُعَيِّروا المسلمين بهم. وأما القسم الثالث في تفاعلهم مع إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بالإسراء والمعراج: هم الصحابة الذين ازدادوا إيماناً على إيمانهم، وصدّقوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به ـ وإن كانت عقولهم لا تستوعب ذهاب النبي صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام بمكة إلى المسجد الأقصى بإيلياء ـ مدينة القدس ـ، ثم صعوده وعروجه إلى السماوات السبع، ثم رجوعه صلى الله عليه وسلم إلى مكة في جزء من الليل. وكان أبو بكر رضي الله عنه على رأس هذا القسم الذي صدَّق النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخبرهم به، وقد سُمِّي لأجل هذا الموقف بالصديق. فعن عائشة رضي الله عنها قالت: (لمّا أُسْري بالنبيّ صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الأقصى، أصبح يتحدّث الناس بذلك، فارتدّ ناس ممّن آمن، وسعوا إِلى أبي بكر، فقالوا: هل لك في صاحبك، يزعم أنّه أُسْريَ به الليلة إِلى بيت المقدس! قال: أوَ قال ذلك؟ قالوا: نعم، قال: لئن قال ذلك لقد صدق، قالوا: وتصدِّقه! قال: نعم، إِني لأصدِّقه بما هو أبعد من ذلك، أصدِّقه بخبر السماء في غدوة أو روحة. فلذلك سُمِّي الصدِّيق) رواه الحاكم وصححه الألباني.
وقد أظهر تصديق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ـ عامة ـ، وتصديق أبي بكر رضي الله عنه ـ خاصة ـ بالإسراء والمعراج: قيام الصحابة رضوان الله عليهم بحق النبي صلى الله عليه وسلم عليهم بتصديقه في كل ما أخبرهم به، طالما صحّ الخبر عنه صلى الله عليه وسلم.
ـ روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (صلى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح ثم أقبل على الناس فقال: بين رجل يسوق بقرة إذ ركبها فضربها، فقالت: إنَّا لم نُخْلَق لهذا، إنما خُلِقْنا للحرث، فقال الناس: سبحان الله، بقرة تكَلّم! فقال: فإني أومن بهذا، أنا وأبو بكر وعمر، وما هما ثمَّ (ليسا حاضرين). وبينما رجل في غنمه إذ عدا الذئب فذهب منها بشاة فطلب حتى كأنه استنقذها منه، فقال له الذئب: هذا استنقذتَها مني، فمَن لها يوم السَّبُع (إذا أخذَها السَّبُعُ المفترِسُ مِن الحيوانِ عند الفِتَن)،يوم لا راعي لها غيري (حين تُتْرَك نُهْبَةً للسِّباع)؟ فقال الناس: سبحان الله، ذئب يتكلم، قال: فإني أومن بهذا أنا وأبو بكر وعمر، وما هما ثم). لقد شهد النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما أنهما سيصدقان خبره عن كلام البقرة والذئب إذا علماه، وهي منقبة عظيمة لهما، لتصديقهما المطلق لكل ما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم ولو كان مخالفا للعقل، قال التوربشتي: "إنما أراد بذلك تخصيصهما بالتصديق الذي بلغ عين اليقين". ومن المعلوم أنه لم يُؤْثَر عن أحدٍ من الصحابة أنه حكَّم عقله في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وإخباره عن أمر غيبي، بل كان قولهم ومنهجهم دائما كما عبر أبو بكر الصديق رضي الله عنه في الإسراء والمعراج: (لئن قال فقد صدق).
ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (وكَّلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آت فجعل يحثو (يأخذ من الطعام بملء كفيه) من الطعام، فأخذته، وقلت: والله لأرفعنك (لأذهبن بك) إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: إني محتاج وعليَّ عيال ولي حاجة شديدة، قال: فخليت عنه، فأصبحت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا هريرة، ما فعل أسيرك البارحة؟ قال: قلت: يا رسول الله شكا حاجة شديدة وعيالا فرحمته فخليت سبيله، قال: أما إنه قد كذبك وسيعود، فعرفت أنه سيعود لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه سيعود، فرصدته فجاء يحثو من الطعام فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم... فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما إنه قد صدقك وهو كذوب، تعلم من تخاطب منذ ثلاث ليال يا أبا هريرة؟ قال: لا، قال: ذاك شيطان) رواه البخاري. والشاهد في هذا الموقف والحديث تصديق أبي هريرة رضي الله عنه المطلق للنبي صلى الله عليه وسلم: حيث كان في كل ليلة يتيقن من عودة الأسير الذي أمسك به ثم تركه، وما كان ذلك إلا لتصديقه لقول النبي صلى الله عليه وسلم له أنه سيعود، فما نظر أبو هريرة رضي الله عنه رضي الله عنه إلى القرائن الظاهرة التي توحي بأنه لن يعود، وإنما اعتقد وأيقن أن هذا الأسير الذي تركه سيعود، رغم وعده له بأنه لن يعود، وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم له: (أما إنه قد كذبك وسيعود)، ومن ثم قال أبو هريرة رضي الله عنه: (فعرفتُ أنه سيعود لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه سيعود).
قال ابن عثيمين في شرحه لهذا الحديث: "كان الصحابة رضي الله عنهم يؤمنون بما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم كما يؤمنون بما يشاهدونه بأعينهم أو أكثر".
من حقوق نبينا صلى الله عليه وسلم علينا تصديقه في كل ما أخبر به، وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يصدقونه ويؤمنون بما يخبرهم به، وقد عبَّر أبو بكر رضي الله عنه عن ذلك بقوله: (لئن كان قال ذلك لقد صدق). وفي ذلك دلالة واضحة على إيمان الصحابة رضوان الله عليهم بكل ما أخبرهم به النبي صلى الله عليه وسلم، سواء شاهدوا ذلك أم لم يشاهدوه، وسواءٌ استوعبته عقولهم وفهموه، أمْ فاق تصوّرهم وإدراكهم، ما دام قد ثبت وصحَّ الخبر والحديث عن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم. وشتان بين ذلك وبين الذين يقدّمون العقل على النصوص الصحيحة الصريحة، ويردون بعض الأحاديث النبوية بحجّة أنها لا تتماشى مع عقولهم القاصرة، قال ابن تيمية: "إن ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم عن ربه، فإنه يجب الإيمان به، سواء عرفنا معناه أو لم نعرف، لأنه الصادق المصدوق. فما جاء في الكتاب والسنة وجب على كل مؤمن الإيمان به، وإن لم يفهم معناه".
وكان عبد الله بن رواحة رضي الله عنه يقول:
وفينا رسول الله يتلو كتابَه إذا انشق معروف من الصبح ساطع
أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا به موقنات أن ما قال واقع