في السنة العاشرة من الهجرة النبوية، قدِم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد بني عامر وفيهم: عامر بن الطُّفَيْل (زعيم مؤامرة قتل سبعين من الصحابة في بئر معونة غدْراً) وَأَرْبَد بْن قَيْس، وكانا من رؤساء القوم ولا يريدان الإسلام، ولكنهما ذهبا بسبب طلب قومهما منهما أن يذهبا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقد قال بنو عامر لعامر بن الطفيل: "يا عامر، إِنَّ النَّاسَ قَدْ أَسْلَمُوا فَأسْلِمْ". فوافق عامر بن الطُّفَيْل وأَرْبَد بْن قَيْس على الذهاب إلى المدينة المنورة، ولأنهما ـ عامر بن الطُّفَيْل وَأَرْبَدُ بْنُ قَيْس ـ لا يريدان الإسلام فقد اتفقا فيما بينهما على الغدْر بالنبي صلى الله عليه وسلم وقتله. وقد حفظ الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم من مؤامرتهما وأهْلكهما، فمات أحدهما بالطاعون، وصُعِق الآخر بصاعقة من السماء.
ذكر ابن هشام في "السيرة النبوية"، وابن سعد في "الطبقات الكبرى"، وابن كثير في "البداية والنهاية"، والسيوطي في "الخصائص الكبرى" وغيرهم: أن عامر بن الطفيل قال لأَرْبَد بْن قَيْس: "إذا قدِمْنا على الرجل (النبي صلى الله عليه وسلم)، فإني سأشغل عنك وجهه، فإذا فعلت ذلك فاعْله (اقتله) بالسيف، فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال عامر بن الطفيل: يا محمد، خالني (اتخذني صديقا)، قال: لا والله حتى تؤمن بالله وحده، قال: يا محمد خالني، وجعل يكلمه وينتظر من أرْبد ما كان أمَرَه به، فجعل أرْبد لا يحير (يفعل) شيئا، قال: فلما رأى عامر ما يصنع أربد، قال: يا محمد خالني قال: لا، حتى تؤمن بالله وحده لا شريك له. فلما أبَى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أما والله لأملأنها عليك خيلا ورجالا، فلما ولَّى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم اكفني عامر بن الطفيل. فلما خرجوا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال عامر لأربد: ويلك يا أربد أين ما كنتُ أمرتُك به؟ والله ما كان على ظهر الأرض رجل هو أخوف عندي على نفسي منك. وايم الله لا أخافك بعد اليوم أبدا. قال: لا أبا لك! لا تعجل عليّ، والله ما هممتُ بالذي أمرتني به من أمره إلا دخلت بيني وبين الرجل، حتى ما أرى غيرك، أفأضربك بالسيف؟ وخرجوا راجعين إلى بلادهم، حتى إذا كانوا ببعض الطريق، بعث الله على عامر بن الطفيل الطاعون في عنقه، فقتله الله في بيت امرأة من بني سلول، فجعل يقول: يا بني عامر، أَغُدَّةٌ (داء يصيب البعير فيموت منه، وهو شبيه بالطاعون) كَغُدَّةِ الْبَكْر (الفتى من الإبل) في بيت امرأة من بني سلول!".
هلاك عامر بن الطفيل وأَرْبَدُ بْنُ قَيْس:
قال الماوردي في "أعلام النبوة": "فأما عامر فطرح الله عليه الطاعون في عنقه فقتله في بيت امرأة من بني سلول فجعل يقول: أغدة كغدة البكر في بيت امرأة من بني سلول (كانوا موصوفين باللؤم)، وركب فرسه فركضه (رماه وداسه) حتى مات. وأما أرْبَد فقدِم على قومه فقالوا: ما وراءك يا أربد؟ فقال: والله لقد دعانا محمد إلى عبادة شيء لوددت أنه عندي الآن فأرميه بنبلي هذا حتى أقتله، ثم خرج بعد مقالته بيوم أو يومين ومعه جمال له تتبعه، فأرسل الله عليه وعلى جماعته صاعقة أحرقتهم".
ولما رأى بنو عامر بن صعصعة ما حلَّ بعامر بن الطفيل، وأربد بن قيس أرسلوا وفدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعلنوا إسلامهم، فعن عبد الله بن الشخير رضي الله عنه قال: (انطلقتُ في وفدِ بني عامرٍ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فقلنا: أنت سيدُنا، فقال: السيد الله تبارك وتعالى، قلنا: وأفضلُنا فضلًا، وأعظمُنا طولًا (أكثرُنا عَطاءً وعلوًّا ورِفعَة)، فقال: قولوا بقولِكم، أو بعضِ قولِكم، ولا يَسْتَجْريَنَّكم الشيطان) رواه أبو داود وصححه الألباني.
دروس مستفادة من قصة عامر بن الطُّفَيْل وأَرْبَد بْن قَيْس ومؤامرتهما لقتل النبي :
ـ حِفْظ الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: حيث منع عامر بن الطُّفَيْل وأَرْبَد بْن قَيْس من المَساس بالنبي صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}(المائدة: 67)، قال ابن كثير: "أي بلغ أنت رسالتي، وأنا حافظُك وناصرُك ومؤيدُك على أعدائك ومُظفِرُك بهم، فلا تخف ولا تحزن، فلن يصل إليك أحدُ منهم بسوء يؤذيك". فقد خصَّ الله عز وجل نبينا صلى الله عليه وسلم عن غيره من الأنبياء بعصمة بدنه الشريف من القتل، فعن عائشة رضي الله عنها: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يُحْرس حتى نزلت هذه الآية: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}، فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسَه من القبة، فقال لهم: يا أيها الناس، انصرفوا عني، فقد عصمني الله) رواه الترمذي وحسنه الألباني. قال الماوردي: "فمن معجزاته صلى الله عليه وسلم: عصمتُه من أعدائه، وهم الجمُّ الغفير، والعددُ الكثير، وهم على أتم حَنَقٍ عليه، وأشدُّ طلبٍ لنفيه، وهو بينهم مسترسلٌ قاهر، ولهم مخالطٌ ومكاثر، ترمُقُه أبصارُهم شزراً، وترتد عنه أيديهم ذعراً، وقد هاجر عنه أصحابه حذراً حتى استكمل مدته فيهم ثلاث عشرة سنة، ثم خرج عنهم سليماً، لم يكْلَم في نفسٍ ولا جسد، وما كان ذاك إلا بعصمةٍ إلهيةٍ وعدَه الله تعالى بها فحققها، حيث يقول: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} فعَصَمَه منهم".
وقد بَوَّب البيهقي باباً في كتابه "دلائل النبوة" فقال: "باب وفد بني عامر، ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم على عامر بن الطفيل، وكفاية الله تعالى شره وشرَّ أربد بن قيس، بعد أن عصم منها نبيه صلى الله عليه وسلم، وما ظهر في ذلك من آثار النبوة".
ـ انتقام الله عز وجل من الكافرين المعاندين والظالمين ولو طالت حياتهم، فإن الله يمهلهم لعلهم إليه يرجعون، فإذا تمادوا في ظلمهم وكفرهم، أخذهم الله أخذ عزيزٍ مقتدر، فعامر بن الطفيل هو زعيم مؤامرة قتل سبعين صحابياً في بئر معونة في السنة الرابعة من الهجرة، وقد ظل النبي صلى الله عليه وسلم بعد حادثة بئر معونة يدعو على عامر بن الطفيل ومن شاركه في قتل هؤلاء الصحابة ثلاثين يوما في الصلاة، وفي السنة العاشرة من الهجرة أصاب الله عز وجل عامر بن الطُّفَيْل بالطاعون، قال ابن كثير في "البداية والنهاية": "قال الأوزاعي: قال يحيى: فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو على عامر بن الطفيل ثلاثين صباحا: اللهم اكفني عامر بن الطفيل بما شئت، وابعث عليه ما يقتله، فبعث الله عليه الطاعون". كما أرسل الله تعالى على أَرْبَد بْن قَيْس صاعقةً فأهلكته، قال الله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ}(إبراهيم:42)، قال القرطبي: "قال ميمون بن مهران: هذا وعيد للظالم، وتعزية للمظلوم"، وقال السعدي: "هذا وعيد شديد للظالمين، وتسلية للمظلومين، يقول تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} حيث أمهلهم وأدَرَّ عليهم الأرزاق، وتركهم يتقلبون في البلاد آمنين مطمئنين، فليس في هذا ما يدل على حُسن حالهم، فإن الله يُمْلي للظالم ويُمْهِله ليزداد إثما، حتى إذا أخذه لم يُفْلِته".