ترجع مادة (البلاء) إلى الجذر (بلوي) قال ابن فارس: الباء، واللام، والواو، والياء، أصلان: أحدهما: إخلاق الشيء، والثاني: نوع من الاختبار، ويحمل عليه الإخبار أيضاً. فمن الأول قولهم: بَلِيَ يَبْلَى فهو بال. والبِلَى مصدره، يقال: بَلِيَ الثوب بِلَىً وبَلاء، أي: خَلُق. وبقال: ناقة بِلْوُ سَفَر، مثل نِضْو سفر، وبِلْيُ سَفَر، أي: قد أبلاها السفر. ومن الثاني قولهم: بُلِيَ الإنسان وابْتُلِيَ، وهذا من الامتحان، وهو الاختبار، وبلوته: اختبرته، كأني أخلقته من كثرة اختباري له. وبلوتُ فلاناً: إذا اختبرته، وسُمي الغم بلاء من حيث إنه يَبْلي الجسم. ويكون البلاء في الخير والشر، قال سبحانه: {ونبلوكم بالشر والخير فتنة} (الأنبياء:35) فالله تعالى يُبْلِي العبد بلاء حسناً، وبلاء سيئاً، وهو يرجع إلى هذا؛ لأن بذلك يُخْتَبَرُ في صبره وشكره، غير أن الأكثر في (الشر) أن يقال: بلوته أبلوه بلاء، وفي الخير: أبليته أبليه إبلاء، وبلاء. وقولهم: أبليت فلاناً عذراً، أي: أعلمته وبينته فيما بيني وبينه، فلا لوم عليَّ بعد. وتقول العرب: أبلني كذا، أي: أخبرني، فيقول الآخر: لا أُبليك. ويقال: ابتليته، فأبلاني، أي: استخبرته فأخبرني.
قال الراغب الأصفهاني: "وإذا قيل: ابتلى فلان كذا وأبلاه، فذلك يتضمن أمرين: أحدهما: تعرف حاله، والوقوف على ما يُجْهَلُ من أمره. والثاني: ظهور جودته ورداءته، وربما قُصِد به الأمران، وربما يُقْصَد به أحدهما، فإذا قيل في الله تعالى: بلاه بكذا، وأبلاه، فليس المراد منه إلا ظهور جودته ورداءته، دون التعرف لحاله، والوقوف على ما يُجْهَلُ من أمره؛ إذ كان الله علَّام الغيوب، وعلى هذا قوله عز وجل: {وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن} (البقرة:124).
وسمي (التكليف) بلاء من أوجه:
أحدها: أن التكاليف كلها مشاق على الأبدان، فصارت من هذا الوجه بلاء.
الثاني: أنها اختبارات، ولهذا قال الله عز وجل: {ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم} (محمد:31).
الثالث: أن اختبار الله تعالى للعباد تارة بالمسارِّ ليشكروا، وتارة بالمضار ليصبروا، فصارت المحنة والمنحة جميعاً بلاء، فالمحنة مقتضية للصبر، والمنحة مقتضية للشكر، والقيام بحقوق الصبر أيسر من القيام بحقوق الشكر، فصارت المنحة أعظم البلاءين، وبهذا النظر قال عمر رضي الله عنه: (بُلِينا بالضراء فصبرنا، وبُلينا بالسراء فلم نشكر).
ولفظ (الابتلاء) بمشتقاته ورد في القرآن الكريم في ثمانية وثلاثين موضعاً (38) جاء في ثلاثين موضعاً بصيغة الفعل، من ذلك قوله عز وجل: {الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا} (الملك:2)، وورد في ثمانية مواضع بصيغة الاسم، من ذلك قوله سبحانه في حق بني إسرائيل: {وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم} (البقرة:49) ومثلها في الأعراف، وإبراهيم.
ولفظ (الابتلاء) بمشتقاته ورد في القرآن الكريم على معنيين اثنين:
الأول: الابتلاء بمعنى الاختبار والامتحان، ومنه قوله تعالى: {وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات} (البقرة:124) أي: وإذا اختبر، وكان اختبار الله تعالى إبراهيم، اختباراً بفرائض فرضها عليه، وأمرٍ أمره به، وذلك هو (الكلمات) التي أوحاهن إليه، وكلفه العمل بهن، امتحاناً منه له، واختباراً. ونحو هذا قوله عز من قائل: {وابتلوا اليتامى} (النساء:6) يعني به: اختبروا عقول يتاماكم في أفهامهم، وصلاحهم في أديانهم، وإصلاحهم أموالهم. ومنه أيضاً قوله عز وجل: {وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون} (الأعراف:168) يقول تعالى: اختبرناهم. وبحسب هذا المعنى كذلك قوله سبحانه: {ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات} (البقرة:155) أي: لنختبرنكم بشيء من خوف ينالكم من عدوكم، وبسَنَةٍ تصيبكم، ينالكم فيها مجاعة وشدة، وتتعذر المطالب عليكم، فتنقص لذلك أموالكم، وحروب تكون بينكم وبين أعدائكم من الكفار، فينقص لها عددكم، وموت ذراريكم وأولادكم، وجدوب تحدث، فتنقص لها ثماركم. كل ذلك امتحان مني لكم، واختبار مني لكم، فيتبين صادقوكم في إيمانهم من كاذبيكم فيه، ويُعرف أهل البصائر في دينهم منكم، من أهل النفاق فيه والشك والارتياب. ومثله قوله عز وجل: {ونبلوكم بالشر والخير فتنة} (الأنبياء:35) أي: ونختبركم أيها الناس {بالشر} وهو الشدة، نبتليكم بها، وبـ (الخير) وهو الرخاء والسعة، فنفتنكم به. و(الابتلاء) بمعنى الاختبار والامتحان ورد كثيراً في القرآن.
وقد قال الطبري عند قوله عز وجل: {وليبتلي الله ما في صدوركم} (آل عمران:154) قال: وإن كان (الابتلاء) في ظاهر الكلام مضافاً إلى الله الوصف به، فمراد به أولياؤه وأهل طاعته، وأن معنى ذلك: وليختبر أولياء الله، وأهل طاعته الذي في صدوركم من الشك والمرض، فيعرفوكم، فيميزوكم من أهل الإخلاص واليقين.
الثاني: الابتلاء بمعنى النعمة، من ذلك قوله تعالى: {وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا} (الأنفال:18) البلاء ها هنا النعمة، كي يُنْعِمَ على المؤمنين بالله ورسوله بالظفر بأعدائهم، ويُغْنِمَهم ما معهم، ويكتب لهم أجور أعمالهم وجهادهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الطبري: "ويعني بـ (البلاء الحسن) النعمة الحسنة الجميلة". ووفق هذا المعنى قوله عز من قائل مخاطباً بني إسرائيل: {وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم} (البقرة:49) يعني بقوله: {بلاء} نعمة؛ والمعنى: وفي الذي فعلنا بكم من إنجائناكم مما كنتم فيه من عذاب آل فرعون إياكم، بلاء لكم من ربكم عظيم. روى الطبري عن ابن عباس رضي الله عنهما، قوله: {بلاء من ربكم عظيم} قال: نعمة. ومثل هذه الآية قوله تعالى: {وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم} (الأعراف:141) أي: وفي سومهم إياكم سوء العذاب، اختبار من الله لكم، ونعمة عظيمة. وقوله عز وجل: {وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم} (إبراهيم:6) قال الطبري: "قد يكون (البلاء) في هذا الموضع نعماء، ويكون: من البلاء الذي يصيب الناس من الشدائد".
أما قوله سبحانه في قصة إبراهيم عندما أُمر بذبح ابنه إسماعيل عليهما السلام: {إن هذا لهو البلاء المبين} (الصافات:106) فقد ذهب الطبري وابن عاشور إلى أن (البلاء) هنا بمعنى الاختبار، والمعنى: إن هذا التكليف الذي كلفناك هو الاختبار البين، أي: الظاهر دلالة على مرتبة عظيمة من امتثال أمر الله. وذهب ابن زيد إلى أن (البلاء) هنا بمعنى الشر، قال: "و(البلاء) في هذا الموضع الشر، وليس باختبار". وذهب القرطبي إلى أن (البلاء) في الآية بمعنى النعمة، أي: إن ما ابتلى الله به إبراهيم من أمره بذبح ابنه إسماعيل عليهما السلام هو النعمة الظاهرة.
وقوله عز شأنه في بني إسرائيل: {وآتيناهم من الآيات ما فيه بلاء مبين} (الدخان:33) الابتلاء هنا قد يراد به (النعمة) وقد يراد به (الشدة) فهو محتمل للمعنيين، قال الطبري: "أخبر سبحانه أنه آتى بني إسرائيل من الآيات ما فيه ابتلاؤهم واختبارهم، وقد يكون الابتلاء والاختبار بالرخاء، ويكون بالشدة" فيكون المعنى على حدِّ قوله سبحانه: {ونبلوكم بالشر والخير فتنة} (الأنبياء:35).
مما سبق يتبين أن لفظ (الابتلاء) أكثر ما ورد في القرآن الكريم بمعنى الاختبار والامتحان، وورد بدرجة أقل بمعنى النعمة والمنحة، وجاء في بعض المواضع ما يحتمل المعنيين.