هذه الأسطر ليستْ إشادةً بما وصلَ إليه الغربُ من التقدُّم والتطوُّر في الأنظمة الحديثة، والعناية بالجودة والمرونة، والتفنُّن في أساليب الحياة اليومية وتسهيل الإجراءات؛ فهو أمرٌ مفروغٌ منه شِئْنا أم أبيْنا، كما أنها ليستْ تلميعًا لصورة الغرب لدى المسلمين، أو تطبيلًا له في عالمنا الإسلاميِّ الذي يُعاني من أزمات ومشاكلَ بسبب بُعْدِنا عن دين الله، وتكالُب الأُمم علينا، كما أنها ليست حبًّا في العيون الزُّرْق وبلاد الخواجة، فوالله الذي لا إله غيره إنَّ غُبارًا من نِعال نبيِّنا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم خيرٌ وأفضلُ وأحبُّ إلينا من الشرق والغرب كافة، بما فيهما الصين واليابان والكوريَّتان.
مِنْ أين أبدأُ في مَدِيحِ محمَّدٍ ♦♦♦ لا الشِّعرُ يُنصفُه ولا الأقْلامُ
لكنني من خلال زيارتي لعددٍ من الدول الأوربية، رأيتُ نقاطًا إيجابية، وشاهدتُ مواقفَ جديرةً بالاستفادة منها في عالمنا الإسلاميِّ، ومن هنا أتطرَّق لبعض هذه المشاهدات من باب أنَّ الحِكْمة ضالَّةُ المؤمن أينما وجدَها فهو أحقُّ بها، ومن باب أنَّ ديننا العظيم هو الذي علَّم البشرية مُراعاةَ النِّظام وحقوق الإنسان، وحرَّرهم من قيود العبودية الجائرة والاستغلال، وحثَّ على كسب العلم والمعرفة، ودعا الناس إلى التعارُف فيما بينهم، ونشر الرحمة والتسامح والسلام، وصان العقل والنفس والشرف والدم والمال العام، وجعل الناس سواسيةً كأسنان المشط، لا تفاضُل بينهم إلا بالتقوى:[يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ][الحجرات: 13]، فإلى هذه المرئيات والمشاهَدات:
قوة الانتماء:
لاحظتُ في أوروبا بشكلٍ عامٍّ قوَّةَ الانتماء للوطن والسَّعي في نُهوضه، فترى الناس يُنظِّفون الساحات الموجودة أمام بيوتهم، ويُحافظون على ثرواتِ وممتلكات بلدانهم، ويحبُّون أوطانهم ومكتسباتها، ويعتبرونها بيتًا كبيرًا لهم؛ بل جزءًا من جَسدهم يتألَّمون لألمه، ويفرحون لفرحه، ويعملون لنموِّه وتطوُّرِه، فالوطنية خدمةٌ وعمل، وجدٌّ واجتهادٌ، وصبرٌ وتضحية.
وإِذا عظَّمَ البلادَ بنوها ♦♦♦ أنزلتْهمْ منازلَ الإجلالِ
المحافظة على الهدوء:
عشتُ في منطقة أوكسي التي تقع بضواحي مدينة مالمو بالسويد، وهي ثالث أكبر مدينة في السويد من حيث عدد السكان، وتحتضنُ عددًا من الميادين والمباني التاريخية، وتَبعُد عن مطار كوبنهاجن الدولي بالدنمارك بحوالي 20 دقيقة من سير السيارة أو القطار الذي يمرُّ عبر جسر أوريسند كل 20 دقيقة، ورأيتُ الهدوء العجيب والغريب يُخيِّم على المنطقة والسُّكان؛ فلا أصوات، ولا ضجيج، ولا إزعاج، ولا صراخ، ولا سهر، ولاحظتُ أن عامة الناس يرجعون إلى بيوتهم ومساكنهم بعد المغرب مباشرةً استعدادًا لليوم التالي، وأنَّ الأسواق تُغلق أبوابها بين الثامنة والعاشرة مساءً في موسم الربيع طبعًا، والليل الهادئ مع النسيم العليل، والسماء الصافية، والنجوم المتلألئة تُسبِّح خالق السماوات في هدوء وسكونٍ.
فَيَا لَكَ مِنْ ليلٍ كَأنَّ نُجُومَهُ ♦♦♦ بكلِّ مُغَارِ الفتْلِ شُدَّتْ بيَذْبُلِ
الكتاب والقراءة:
شاهدتُ في أوروبا عنايةَ الناس بالقراءة والكتاب؛ فتجدهم يقرؤون في القطارات والمواصلات العامة، ويحملون الكتب في الحدائق والمنتزهات، ويسامرون معها في المكتبات وصالات الانتظار ومحلَّات الشاي والكوفي، ولاحظتُ أن هناك مكتباتٍ للقراءة في القُرى والأرياف بجانب المدن الكبيرة، تتوافر بها معظم الخدمات الطُّلابية؛ من الإنترنت، والنسخ والتصوير، كما تشتمل على أركان القراءة للكبار والصغار، فحبُّ الكتاب ونشره واقتناؤه وقراءته أصبحتْ عادةً متأصِّلة لدى القوم؛ لأن الكتب ثروة العالم، والكتاب الجيِّد صديق حميم، كما يقول المثل الإنجليزي، ويمكن للكتب أن تحوِّل ساعات اليأس والقنوط إلى ساعاتٍ من التفاؤل والسعادة، والبهجة والمتعة.
أعَزُّ مكانٍ في الدُّنا سرْجُ سَابِحٍ ♦♦♦ وخَيْرُ جليسٍ في الزَّمانِ كتابُ
بين الرياضة والأكل:
على العكس تمامًا ممَّا عندنا من الحرب على الوجبات الثلاثة دون مهادنة أو مصالحة، وحرصنا على الأطعمة التي تُسبِّب التخمة وقرحة المعدة ومشاكل صحية عديدة، لاحظتُ أن اهتمام الناس وعنايتهم بالرياضة في أوروبا أكثرُ من اهتمامهم بالأكل والشرب وتناول الحلويات والبقلاوة وكلِّ ما لذَّ وطاب من الأكلات المشبعة بالزيوت والشحوم والفلافل والسموم، وأن قلَّةً قليلةً من الناس يأكلون في المطاعم، وأن الوجبات الرئيسية هي وجبتان تقريبًا: الفطور، والغداء المتأخِّر، ومعظم الناس مهتمون بالرياضة بمختلف أشكالها وأساليبها؛ ولذلك تُلاحظ الرشاقة حتى عند كبار السنِّ؛ فالبطْنة تُذهب الفِطْنة، كما يقول المثلُ العربي، ومحبُّو الأكل ومحبُّو النَّوم عاجزون عن القيام بأعمالٍ كبيرة، كما يقولُ الملك هنري الرابع.
استثمار الطاقة:
رأيتُ في أوروبا أن الدول تستثمر الطاقة الشمسية المتجددة رغم قلَّة الشمس، وكذلك تستثمرُ طاقة الرياح في توليد الكهرباء، فأقاموا لها طواحين هوائية في طول الغرب وعرضه، وهي تُدِرُّ عليهم الأموال والوظائف والطاقة، كما تستثمر هذه الدول من وراء إعادة التدوير، فكلُّ شيء له مكان خاصٌّ في عملية التدوير، فهناك حاويات خاصة للبطاريات والأدوات الكهربائية، وحاويات للطعام، وحاويات لقشور الفواكه يُستفاد منها في توليد الغاز للسيارات العامة، وتسخين المياه للمنازل كذلك.
الشفافية، والمرونة:
تبلغ الشفافية في السويد درجة عالية؛ حيث إنَّ المواطن العادي يستطيعُ أن يطلب مصروفات أيِّ موظف بالدولة، وسيأتيه الرَّد خلال عشرة أيام فقط، يوضح أعماله ومهامه ومصروفاته من الدولة.
أما المرونة، فهي من مخرجات التقنية الحديثة التي سهَّلتْ على الإنسان إجراءاتٍ كثيرةً، فتمَّ إيجاد الخدمة الذاتية في كثير من الحالات، لدرجة أن هناك فنادقَ لا يوجد بها حارس ولا موظف استقبال، وتتمُّ عملية الحجز والمغادرة كاملةً عبر بوابة الدَّفْع الإلكترونية في بعض الدول الأوربية.
الابتسامة:
رأيتُ في الغرب أن الابتسامة والترحيب من أهم ثقافات المجتمع، زُرتُ المصانع والمتاحف والمدارس والمؤسسات العامة، نُستقبل بابتسامة، ونُودَّع بابتسامة، وكأنها جزء من الثقافة اليومية.
بَشاشَةُ وجهِ المرءِ خيرٌ من القِرَى ♦♦♦ فكيف بمَنْ يأتي بهِ وهْوَ ضاحِكُ
العناية بالدين واللغة:
لاحظتُ في أمستردام - وهي عاصمة هولندا، وأكبر مدن البلاد - العناية الكبيرة للجالية العربية والمغربية على وجه الخصوص بتعليم أولادها القرآنَ الكريم في المساجد والمراكز الإسلامية؛ حيث استمعتُ إلى بعض دروس اللغة العربية التي تُقام في الفصول الدراسية خلال يومي السبت والأحد، كما رأيتُ العناية بتعليم القرآن الكريم من خلال المراكز الإسلامية والأوقاف الإسلامية في أوروبا، ولاحظتُ أن كلَّ جالية مسلمة لها مساجد خاصة، فمسجدٌ للمغاربة، وآخر للأتراك، وثالثٌ للأفغان... يحرصون على تعليم دينهم وعقيدتهم، والحفاظ على تقاليدهم وعاداتهم.
فسِرْ في بلادِ اللهِ والْتَمِسِ الغِنى ♦♦♦ تَعِشْ ذا يَسارٍ أو تمُوتَ فتُعْذَرَا
الدرَّاجة الهوائية:
الدراجة الهوائية ربما تكون وسيلة النقل الأكثر استخدامًا في بعض الدول الأوربية من السيارة، وتبلغ العناية بالدراجة إلى درجة العناية بالسيارة، فلها مساراتٌ وخطوطٌ في جميع المدن والقُرى، ويحرص الناس على استخدامها والتنقُّل بها بين البيت والعمل والسوق والمدرسة بكلِّ سعادةٍ نفسية، وأريحية كبيرة؛ لأسباب كثيرة، منها: أنها وسيلة للاستجمام والرياضة، ومفيدة للصحة واللياقة البدنية، ولقلة تكاليفها التشغيلية، ولكونها تُساهم في الحفاظ على جمال البيئة من الدخان والزحام وغيرها.
وقد شاهدتُ ساعي البريد، ورجل البلدية، والطبيب، وغيرهم من فئات المجتمع يستخدم الدرَّاجة في الحضور إلى عمله.
الحدود في أوروبا:
شاهدتُ أنه لا حدود بين هذه الدول بمعنى أن تكون هناك حراسات ونقاط تفتيش وبوابات وأجهزة أمن، وتفتيش البضائع، والاطِّلاع على الجوازات، فأمن الجميع واحد، وعملة معظمهم واحدة، وعندهم اتفاق على رسم السياسة الخارجية، والكل يعتبر أمن الآخر من أمنه، وسعادته من سعادته.
دخلنا إلى الدنمارك وإذا بثلاثة من أطفالنا المرافقين لنا انتهت مدة صلاحية جوازاتهم السويدية، انتبه الموظف لذلك، وقال: أتمنَّى لكم سفرًا سعيدًا، ولكن يُفضل تجديد الجوازات في أقرب فرصة، تمت الإجراءات دون تفتيش أو إزعاج أو عتاب وغيره، ومررْنا على أربع دول بخير وسلام.
البيئة والحياة الفطرية:
العناية بالبيئة أمرٌ في غاية الأهمية بأوروبا، والجميع يحافظون على البيئة وجمالها وطبيعتها وعدم المساس بها، فكم من مرة رأينا الغزلان، والديوك، والبط، والأرانب يعيشون حياتهم الفطرية الطبيعية دون أن يتعرَّض لها أحد بسوء، كما شاهدنا أشجارًا مليئةً بالفواكه مثل الكُمَّثرى والتفاح دون أن يقطفها الناس مع حاجتهم إليها؛ وذلك حفاظًا على جمال الطبيعة.
ومن مظاهر الحفاظ على البيئة أنك عند تسوُّقِك في إحدى الأسواق أو المولات في عدد من الدول الأوروبية، سوف تضطرُّ إلى أن تشتري الأكياس الورقية، فهي ليست بالمجان مثل الذي عندنا في الأسواق والبرادات؛ وذلك عناية بالبيئة، وهناك أكياس صديقة للبيئة تشتريها مرة واحدة، وتستبدلها بجديدة طوال الوقت.
الأطفال في الغرب:
الأطفال في الغرب يتمتَّعون بحماية خاصة من الأذى النفسيِّ والبدني واستغلالهم في الأعمال والمهن، ويُمنَع ضرب الأولاد نهائيًّا حتى في البيت أو المدرسة، ولاحظتُ على أطفال أوروبا الجرأة والشجاعة في الحديث، وكثرة توجيه الأسئلة، وعدم الخوف، والبحث عن المجهول.
لا تَزْدَرُنَّ صِغارًا في ملاعِبهم ♦♦♦ فجائزٌ أنْ يُروا ساداتِ أقوامِ
شمعة أخيرة:
إلى الذين يزورون أوروبا... كونوا خير سفراء لدينكم وأُمَّتكم، وتعاملوا مع الجميع بسماحة الإسلام ولطفه، وتذكَّروا بشارة النبيِّ الكريم صلى الله عليه وسلم:(لئنْ يهديَ اللهُ بِكَ رجُلًا واحِدًا، خيرٌ لكَ مِنْ حُمر النَّعَم)؛ متفق عليه.
ارْحَمْ أُخَيَّ عبادَ الله كلَّهُمُ ♦♦♦ وانْظُر إليهم بعينِ العَطْفِ والشَّفَقهْ.
_________
بتصرف واختصار للمقال