في يوم الجمعة السابع عشر من شهر رمضان من العام الثاني للهجرة النبوية الشريفة، كانت غزوة بدر، التي انتصر فيها المسلمون على المشركين انتصاراً عظيما، وكانت فرقاناً بين الحق والباطل، وبدايةً للميلاد الحقيقي للدولة الإسلامية الجديدة في المدينة المنورة، إذ لم تقتصر آثار هذه الغزوة المباركة على المسلمين والمشركين واليهود في مكة والمدينة المنورة فقط، بل امتدت آثارها على الجزيرة العربية كلها، وعلى العالم كله بصفة عامة، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}(آل عمران:123)، ولذلك قالابن القيم: "فسُعُود الأيام ونحوسها: إنما هو لسعود الأعمال وموافقتها لمرضاة الرب، ونحوس الأعمال إنما هو بمخالفتها لما جاءت به الرسل، واليوم الواحد يكون يوم سعد لطائفة، ونحس لطائفة كما كان يوم بدر، يوم سعد للمؤمنين، ويوم نحس على الكافرين".
والمتأمل في غزوة بدر يرى أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أكثر فيها من الصلاة والدعاء والتضرع إلى الله عز وجل، طلباً لنصره على الكفار الذين يريدون القضاء على الإسلام وأهله، وكان ظاهر حاله صلى الله عليه وسلم في صلاته وكثرة دعائه في غزوة بدر أن ذلك لم يكن جماعياً مع أصحابه، بل كان بمفرده، والأحاديث والروايات في ذلك كثيرة، منها :
ـ عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه قال: (لقدْ رأيْتُنَا ليْلةَ بَدْرٍ وما فينا إنسَانٌ إِلَّا نائم، إِلَّا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإِنَّه كان يُصلِّي إلى شجرةٍ، ويدْعو حتَّى أَصْبَح) رواه أحمد وصححه الألباني. وفي رواية لابن حبان ـ وصححها الأرناؤوط ـ عن علي رضي الله عنه قال: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أصبح ببدر من الغد أحيا تلك الليلة كلها). ولشدة وعظم الموقف على الصحابة رضوان الله عليهم في غزوة بدر كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (اللَّهمَّ إنَّهم حُفاةٌ فاحملْهم، اللَّهمَّ إنَّهم عُراة فاكسُهم، اللَّهمَّ إنَّهم جياعٌ فأشبعهم، ففتحَ الله له يومَ بدرٍ فانقلبوا حينَ انقلبوا وما منهم رجلٌ إلَّا وقد رجعَ بجملٍ أو جملَينِ واكتَسوا وشبِعوا) رواه أبو داود وحسنه الألباني.
ـ وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم ألف وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلا، فاستقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم القبلة ثم مد يديه فجعل يهتف بربه: اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم آت ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة (الجماعة من الناس) من أهل الإسلام لا تُعْبد في الأرض، فمازال يهتف بربه مادا يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه ثم التزمه من ورائه، وقال: يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك، فأنزل الله عز وجل:{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ}(الأنفال:9)، فأمده الله بالملائكة) رواه مسلم. وفي رواية للبخاري قال النبي صلى الله يوم بدرٍ: (اللهم أني أنشُدك عهدَك ووعدَك).
قال ابن حجر: "قوله: (اللهم إني أنشدك) أي: أطلب منك .. وقال الخطابي: لا يجوز أن يتوهم أحد أن أبا بكر كان أوثق بربه من النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الحال، بل الحامل للنبي صلى الله عليه وسلم على ذلك شفقته على أصحابه، وتقوية قلوبهم، لأنه كان أول مشهد شهده، فبالغ في التوجه والدعاء والابتهال، لتسكن نفوسهم عند ذلك، لأنهم كانوا يعلمون أن وسيلته مستجابة".
قال النووي: "قال العلماء: هذه الْمُنَاشَدة إنما فعلها النبيُّ صلى الله عليه وسلم ليراه أصحابه بتلك الحال، فتقْوَى قلوبهم بدعائه وتضرعه، مع أن الدعاء عبادة، وقد كان وعده الله تعالى إحدى الطائفتين، إما العير وإما الجيش، وكانت العير قد ذهبت وفاتت، فكان على ثقة من حصول الأخرى، لكن سأل تعجيل ذلك وتنجيزه من غير أذى يلحق المسلمين". وقال ابن حجر: "فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وهو في صلاته: (اللَّهُمَّ لَا تُودِع مِنِّي، اللَّهُمَّ لَا تَخْذُلنِي، اللَّهُمَّ لا تَتِرنِي، اللَّهُمَّ أَنْشُدك مَا وَعَدَّتْني).. وعند الطبراني بإسنادٍ حسن عن ابن مسعود قال: (ما سَمِعْنا مُنَاشِداً يَنْشُد ضَالَّة، أَشَدّ مُنَاشَدَة مِنْ مُحَمَّد لِرَبِّه يوم بدْر: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَنْشُدك مَا وَعَدَّتْنِي)".
هذه الروايات المتعددة للأحاديث التي جاءت في غزوة بدر، والتي ورد فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم أكثر يوم بدر من الصلاة والدعاء، جاءت بصيغة المفرد، كقول عليٍّ رضي الله عنه: (لقدْ رأيْتُنَا ليْلةَ بَدْرٍ وما فينا إنسَانٌ إِلَّا نائم، إِلَّا رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَنْشُدُكَ عَهْدَكَ وَوَعْدك)، (اللهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وعدتني) (اللَّهُمَّ لَا تَخْذُلنِي) (اللَّهُمَّ نَصْرك الَّذِي وَعَدَّتْنِي) .. وهذا لا يعني أن الصحابة لم يكونوا يدعون الله عز وجل، كلا، فقد كانوا رضوان الله تعالى عليهم يستغيثون ربهم سبحانه، ويستنزلون نصره بالدعاء والتضرع أيضا، وقد قال الله تعالى عن حالهم في غزوة بدر: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِين}(الأنفال:9)، قال ابن جرير: "ومعنى قوله: {تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ}: تستجيرون به من عدوكم، وتدعونه للنصر عليهم"، وقال السعدي: "أي: اذكروا نعمة الله عليكم، لما قارب التقاؤكم بعدوكم، استغثتم بربكم، وطلبتم منه أن يعينكم وينصركم {فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} وأغاثكم بعدة أمور".
من المعلوم يقيناً أن النصر من عند الله عز وجل، قال الله تعالى: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ العَزِيزِ الحَكِيمِ}(آل عمران:126)، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم في غزواته كلها شديد الاجتهاد في الدعاء لربه بطلب النصر، وفي ذلك تربية للصحابة رضوان الله عليهم، ونحن من بعدهم، على أن الدعاء في الجهاد والحروب ـ مع الأخذ بالأسباب وإعداد العدة {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}(الأنفال:60) ـ من أسباب النصر على الأعداء، فلا يُهَوَّن من أمره، وقد قال صلوات الله وسلامه عليه: (إن الدعاء هو العبادة، ثم قرأ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}(غافر:60)) رواه ابن ماجه وصححه الألباني. وقد كان صلى الله عليه وسلم كثير الدعاء والابتهال إلى الله عز وجل في السراء والضراء، وفي حياته كلها وخاصة في أوقات المحن والشدائد والغزوات، كدعائه في غزوة بدر.