قربت وسائل الاتصال الحديثة بين الأشخاص المتباعدين جغرافيا، وجعلت العالم يبدو بحق كقرية صغيرة من حيث سهولة التواصل وتبادل المعلومات والخبرات، وإن كانت هذه القرية الصغيرة اتصالاً، لاتزال عالمًا متنائيًا متنافرًا أفكارًا وقيمًا.
ولكن المفارقة المدهشة في ثورة الاتصالات أنها قربت المتباعدين وأبعدت المتقاربين، فالمرء يتواصل بانسيابية واستمتاع مع أشخاص من أقاصي الأرض، ويخصص لذلك أوقاتًا غالية، ولكنه يستثقل أن يمر على أمه للاطمئنان عليها، أو أن يمنح أبناءه ساعة من نهار يتعارفون خلالها، أو أن يفارق مقعده ليتنزه مع أصدقائه الحقيقيين.
والمرأة قد يكون لديها عشرات الصديقات من دول مختلفة، فهذه صديقة من الهند، وتلك أخرى من السند، وثالثة من القطب الشمالي، ورابعة من جبال الأنديز، تبني جسور تواصل وتفاهم مع أشخاص مختلفين، ولكنها تضيق ذرعًا ببناء جسر مع جارة قريبة لها ولو بإلقاء السلام، أو تهنئة بالعيد، فجسر التواصل محبب وسهل في العالم الافتراضي، ومع الأشخاص الإلكترونيين، ولكن حاجز الفرقة والانعزال للمقربين مكانيًا، في ذلك العالم الحقيقي الممل التقليدي، الذي لا تديره "الكليك"، وليس فيه خيار "الظهور دون اتصال".
هذه النظرة السلبية لوسائل الاتصال الحديثة، والتي تتهمها بإفساد الإحساس الاجتماعي لدي الأفراد، لا تتفق عليها الدراسات، فالبعض يعتبرها مغالاة، وتصلب أمام تطور هائل وإيجابي من أروع ما اختبرته البشرية.
العلاقة بين تقنيات الاتصال والعزلة الاجتماعية
توصلت الدراسة التي أجراها مشروع "بيو للإنترنت والحياة الأمريكية" إلى أن الأمريكيين الذين يستخدمون تقنيات الاتصال الحديثة اجتماعيون أكثر من غيرهم، وأن الإنترنت والهواتف المحمولة لا تشد الناس بعيدا عن الأوساط الاجتماعية التقليدية بل تعززها، حيث يرتبط استخدامها بشبكات مناقشة أوسع وأكثر تنوعًا.
ورغم أن الدراسة الجديدة أشارت إلى أن استخدام الشبكات الاجتماعية مثل الفيسبوك قد يحتل مكان العلاقات مع الجيران، إلا أنها تظهر أن مستخدمي الانترنت قد يزورون جيرانهم مثلهم مثل الآخرين، كما أن الأشخاص الذين يستخدمون الهواتف المحمولة وشبكة الإنترنت بكثرة في العمل، غالباً ما ينتمون إلى مجموعات تطوعية محلية أيضاً.
ولكن ما مدى صلة هذه الدراسة بالمجتمعات العربية التي تتخذ فيها العلاقات الأسرية والاجتماعية أبعادا أعمق وأوثق من مثيلاتها في الثقافات الأخرى؟
قال أستاذ علم النفس الاجتماعي في جامعة اليرموك الدكتور عدنان العتوم أن ثورة المعلومات والاتصالات وانتشار الانترنت في البيوت والمؤسسات والمقاهي تعد ظاهرة تستحق الاهتمام والدراسة لمعرفة اثارها الاجتماعية والنفسية كما تركت اثارها في الجوانب الأخرى العديدة.
وأضاف، لوكالة الأنباء الأردنية، إن استخدام الانترنت من قبل العديد من الناس وخصوصًا شرائح المراهقين والشباب أصبح من الظواهر التي يرى الإنسان العادي انعكاساتها مع كل من يتعامل مع هذه الشرائح .. فاستخدام الانترنت أصبح بديلاً للتفاعل الاجتماعي الصحي مع الرفاق والأقارب وأصبح هم الفرد قضاء الساعات الطويلة في استكشاف مواقع الانترنت المتعددة مما يعني تغيرًا في منظومة القيم الاجتماعية للافراد حيث يعزز هذا الاستخدام المفرط القيم الفردية بدلا من القيم الاجتماعية وقيم العمل الجماعي المشترك الذي يمثل عنصرًا هامًا في ثقافتنا.
وأشار إلى أن الاستخدام الفردي للحواسيب والانترنت يعزز الرغبة والميل للوحدة والعزلة للمراهقين والشباب مما يقلل من فرص التفاعل والنمو الاجتماعي والانفعالي الصحي الذي لا يقل أهمية عن النمو المعرفي وحب الاستطلاع والاستكشاف، وأن بعض الدراسات الأولية تشير إلى أن استخدام الانترنت يعرض الأطفال والمراهقين إلى مواد ومعلومات خيالية وغير واقعية مما يعيق تفكيرهم وتكيفهم وينمي بعض الأفكار غير العقلانية وخصوصا ما يتصل منها بنمط العلاقات الشخصية وأنماط الحياة والعادات والتقاليد السائدة في المجتمعات الأخرى.
وبين أن دخول الانترنت مجالات الحياة الواسعة أصبح عاملاً مساعدًا في تقوية الفجوة بين الاجيال فيما يتعلق بثقافة الحوسبة والاتصال مع العالم الخارجي، بل إن الكثير من الناس الذين لا يتمتعون بميزة استخدام الانترنت أصبحوا عرضة للاتهام بالتخلف والغباء مما يساعد على تطوير نموذج من الصراع الاجتماعي والثقافي بين الأجيال أو شرائح المجتمع أو بين الصغار والكبار أو الأبناء والآباء.
أما عن تأثير هذه الوسائل الحديثة على الأطفال فقد كشفت دراسة أجرتها منظمة "أنقذوا الأطفال" العالمية، أن تقنيات الاتصال الحديثة أوجدت جيلاً من الأطفال يعاني من الوحدة وعدم القدرة علي تكوين صداقات.
واعتمدت النتائج على استطلاع أُجري على عينة من 100 معلم أكد 70% منهم على أن قضاء الأطفال لساعات طويلة بشكل منفرد مع التقنيات وبخاصة الإنترنت يؤثر سلبًا على مهاراتهم الاجتماعية.
أرامل الإنترنت
ومن اخطر الأمور على الأسرة هو إدمان أحد الزوجين للإنترنت، وافتتانه بمواقع الرذيلة، فهذا الأمر لا يضرب الثقة الزوجية في مقتل وحسب، وإنما يغير طبيعة التفكير والإحساس، ويجعل الرغبة الطبيعية توجد في ظروف خاصة، ولا يعد للمؤثرات العادية بين الزوجين أي قوة تذكر.
فخطورة ممارسة الرذيلة عبر الإنترنت ليست كغيرها، فالرجل المفتون بالمواقع الإباحية يزهد في زوجته، وتصبح الرغبة عنده مشفرة، ولا يفكها سوى جو العزلة والسرية والإلكترونية الذي توفره غرف الدردشة، والمواقع المشبوهة.
وقد حدت هذه الحالة بالبعض إلى إطلاق لقب "أرامل الإنترنت" على الزوجات اللاتي يعانين من سقوط أزواجهن في مستنقع المواقع الإباحية، ويغيبون عن ممارسة أي دور حقيقي في حياتهن أو حياة الأبناء.
ولا تقتصر الخطورة على مواقع الرذيلة، بل إن طول البقاء أمام الإنترنت يقتطع وقت الأسرة في كثير من الأحيان.
تقول "مها إبراهيم"، 35 عاما، أعلم تماما أن زوجي لا يستخدم الإنترنت لدخول مواقع سيئة، ولكنني أكره هذه الشبكة لأنها سلبت أسرتي لحظات الاجتماع الدافئة الجميلة.
وتضيف: يحب زوجي الجلوس طويلاً على الإنترنت، فعندما ياتي من عمله الطويل، يتناول الطعام بسرعة، ليهرول إلى الحاسوب ويفتح الإنترنت، وهو مغرم بالمنتديات الحوارية التي يشارك فيها مشاركات رائعة، وينصح الآخرين، ولكنني أنا وأبناءه أحوج إليه من غيرنا.
وتستطرد قائلة: إنني أتذكر حياتي قبل اختراع الهاتف المحمول، والإنترنت، كانت أكثر سعادة وهدوءًا وتواصلاً، فوسائل الاتصال الفظيعة هذه قطعت الصلات بين أفراد الأسرة والأشخاص المقربين لصالح عالم وهمي.
المشكلات قرينة الإدمان
وتقول الباحثة النفسية أ/ داليا حنفي إن الحد الفاصل بين إيجابية وسائل الاتصال الحديثة أو سلبيتها يتحدد وفقا لطبيعة الاستعمال وإذا ما كان في الحدود الطبيعية أم إدمانًا، فالإدمان لا يقتصر على تعاطي مواد لها تأثير معين على الجسم، وإنما هو حالة الاعتمادية وعدم الاستغناء عن شيء ما، والشعور بالحاجة إلى المزيد لحصول الإشباع، وترتب اضطرابات في السلوك.
وتضيف: إذا أردنا معرفة تأثير استخدام تقنيات الاتصال على السلوك الاجتماعي والعلاقات الأسرية فلا يمكننا إصدار حكم عام، فالأمر يعتمد أساسًا وبالدرجة الأولى على حجم الاستخدام، وعدد الساعات التي ينفقها الشخص مستخدمًا للموبايل أو لشبكة الإنترنت، وفي نظر عالمة النفس الأمريكية "كيمبرلي يونج" وهي أول من اهتم بإدمان الإنترنت، فإن استخدامه لأكثر من 38 ساعة أسبوعيا هو مؤشر الإدمان.
وتؤكد "داليا" على أن مدمن الإنترنت أو من يسرف في استخدامه غالبا ما يسيء هذا الاستخدام، ويكون أكثر عرضة للانجراف في المواقع الإباحية، وعلى أية حال فإنه يسعى لتأسيس حياة منفصلة له في هذا العالم الافتراضي يهرب فيها من واقعه كما هو حال "المدمن" بشكل عام، وهذا يؤثر على واقعه ويجعله أكثر تعقيدًا وبرودة، ويفاقم مشكلاته الاجتماعية والأسرية، وأخطر ما في الأمر هو أن وجود العالم الإلكتروني الممتع الذي يهرب إليه يفقده الرغبة في إحداث تغيير أو تحسين حياته الحقيقية فتزداد سوءًا كلما ازداد إدمانًا.
رأي الأسر
كشف استطلاع أجراه (مركز استطلاع الرأى العام) في مصر عن رأي الشباب في استخدامهم للإنترنت أنه على الرغم من قناعة هؤلاء الشباب بأن أهم مميزات الإنترنت هي توسيع المدارك وزيادة المعلومات إلا أن استخدامهم لها انحصر في المحادثة وتحميل الأغاني والأفلام واستخدام البريد الالكتروني.
وأشار معظم الشباب إلى عدم تأثير استخدام الإنترنت على اهتماماتهم الأخرى مثل مشاهدة التليفزيون وقراءة الصحف والمجلات.
أما عن رأي الأسر ففي استطلاع آخر أجراه المركز تبين أن أكثر من نصف العينة يرون أن تأثير الإنترنت يعتبر إيجابياً على أبناءهم، وأكد أكثر من ثلاثة أرباع العينة أن أهم ميزة للإنترنت هى الوصول السريع للمعلومات.
أما الدراسة التي قام بها كل من الدكتور محمد سعيد ودكتور وجدي شفيق بكلية الآداب جامعة طنطا عن (الآثار الاجتماعية للإنترنت على الشباب) فقد كشفت أن 50.07 % من العينة يذهبون إلى أن شبكة الإنترنت تؤثر سلباً على الوقت الذي يتم قضائه مع أسرهم، ورأى 52.5% من المبحوثين أن لشبكة الإنترنت تأثيرا سلبيا على العلاقات الأسرية، وذهب 60.8 % أن لها تأثيرا سلبيا على العلاقات مع الأقارب حيث تقل معدلات الزيارات الأسرية.
تقول الأخصائية الاجتماعية أ/عفت جمعة أنها وصلت إلى طريق مسدود مع ابنها الكبير الذي دمر الإنترنت حياته، وسرق زهرة شبابه، وما باليد حيلة!
وتستطرد قائلة: ابني يتمتع بذكاء حاد، وبطبع خجول ويميل للانطوائية منذ الصغر، ولكنه لم يخرج أبدًا عن الحد المعقول، فكان يلعب في طفولته مع الأطفال، وكان له أصدقاء، وكان يحب الجلوس معنا، ولكن مع دخوله عالم الإنترنت، فقدناه تمامًا أو فقد هو حياته وكل أحبابه.
وتضيف بمزيد من الأسى: لقد أصر زوجي على ألا يحرم ابنه المتفوق من تقنية حديثة تعزز معلوماته، وتسهل دراسته، فمكنه من الإنترنت في حجرته المغلقة وهو في الصف الثاني الثانوي، ولم تتأثر دراسته فقد تخرج من كلية الطب كما أراد، ولكن ما فائدة ذلك وهو أسير للحاسوب، وإذا فارقه كان معنا جسدًا بلا روح أو قلب، وهو يرفض العمل والزواج، فأي حياة هذه؟
وتقول إنها على الرغم من عملها كأخصائية اجتماعية لم تستطع مساعدة ابنها الأكبر، وفي كل مرة كانت تصر على منعه من الإنترنت كانت تواجه بالاستخدامات الجيدة والوجه الحسن لهذا العالم العنكبوتي، وانه لا حق لها في حرمانه من هذا الخير العميم.
وعلى الضفة الأخرى يقف "أحمد إبراهيم" ـ طالب في الفرقة الرابعة بكلية الهندسة جامعة حلوان ـ حيث يبدي دهشته من تعامل الكثير من الآباء والأمهات مع الإنترنت وكأنه "رجس من عمل الشيطان".
ويقول: هذه الشبكة من نعم الله على البشرية، فكم من شخص اهتدي وعرف الله من خلالها؟، وكم من أشخاص تلقوا المساعدة النفسية أو الاجتماعية بسلاسة ويسر وخصوصية عبرها؟، وكم من طالب وباحث وعالم تيسرت أمورهم بهذه الثورة المعلوماتية؟
ويتساءل: لماذا نصر على رؤية الجوانب المظلمة؟ ثم لماذا لا نتمتع بالموضوعية ونقر بأن هذه الجوانب المظلمة ليست حكرا على الإنترنت، وان من يريد الرذيلة والضلال فلن يعجز عنهما سواء بالإنترنت أو بدونه.