بنو قريظة صنف من اليهود كغيرهم من أصناف اليهود الذين نقضوا العهود، وخانوا المسلمين في أصعب الظروف، وتآمروا مع الأحزاب الذين حاصروا المدينة المنورة للقضاء على الإسلام والمسلمين، وكان ذلك خرقاً ونقضاً واضحاً للمعاهدة التي عقدها النبي صلى الله عليه وسلم معهم أول ما قدِم المدينة، فالغدر ونقض العهود والمواثيق خُلق نشأ عليه اليهود، فلا يستطيعون فراقه، وقد وصفهم الله عز وجل بقوله: {أَوَ كُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}(البقرة:100). تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من الخندق ووضع السلاح واغتسل، أتاه جبريل عليه السلام فقال: قد وضعت السلاح، والله ما وضعناه، فاخرج إليهم، قال: فإلى أين؟ قال: هاهنا وأشار إلى بني قريظة، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم إليهم) رواه البخاري.
أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بسرعة الخروج إلى بني قريظة، فأسرع ثلاثة آلاف مقاتل من المسلمين إليهم وحاصروهم في حصونهم خمساً وعشرين ليلة، حتى أتعبهم الحصار، وقذف الله في قلوبهم الرعب، فنصحهم رئيسهم كعب بن أسد بأمور منها الإسلام فلم يقبلوا منه، ثم بعثوا إلى النبي صلى الله صلى الله عليه وسلم يريدون أبا لبابة رضي الله عنه يستشيرونه، وقد كان حليفاً لهم، فنصحهم بالنزول على حكم الرسول صلى الله عليه وسلم، فاستسلموا وأذعنوا وقبلوا، فحكّم النبي صلى الله عليه وسلم فيهم رجلاً منهم وهو سعد بن معاذ الذي أصدر حكمه بأن يُقتل الرجال، وتُسبى النساء، وتُقَسَّم الأموال، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لقد حكمت فيهم بحكم الله) رواه البخاري. لقد كان يهود بني قريظة حريصين على قتل وإبادة المسلمين, ونقضوا عهدهم مع النبي صلى الله عليه وسلم، ومن ثم فعلى الذين يستعظمون هذا الحكم عليهم ويصفونه بأنه كان شديداً وقاسياً, أن يحيطوا علماً بجوانبه وظروفه وما فعلوه من خيانة ونقض للعهود في وقت كان صعباً وشديداً على المسلمين، ليدركوا أنهم هم الذين جَرُّوا على أنفسهم هذا الوبال، قال ابن القيم: "وأما قريظة فكانت أشد اليهود عداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأغلظهم كفرا، ولذلك جرى عليهم ما لم يجر على إخوانهم".
لمَّا أمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين بسرعة الخروج إلى بني قريظة قبل أن يتحصنوا بحصونهم قال لهم: (ألا لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة، فأدرك بعضهم العصر في الطريق، فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيهم، وقال بعضهم: بل نصلي لم يرد منا ذلك. فذُكِر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يعنف واحداً منهم) رواه البخاري. اختلف الصحابة رضوان الله عليهم في فهم كلام النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة)، فبعضهم فهم منه أن المراد الاستعجال في السير وفي نفس الوقت تخوَّف من فوات صلاة العصر، فأسرع بالسير لكنه صلى العصر حين دخل وقته قبل وصولهم إلى بني قريظة، وبعض الصحابة أخذ بظاهر كلامه صلى الله عليه وسلم فأسرع بالسير ولم يصلِّ العصر إلا في بني قريظة، ولم يُخَّطيء أحد منهم الآخر ولا أساء إليه، فلما علم النبي صلى الله عليه وسلم بما فعله أصحابه لم يعنف أحداً منهم ولا عتب عليه، لأن كلاهما مجتهد، إن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر، والله عز وجل يعلم أن قلوبهم جميعاً حريصة كل الحرص على طاعة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو سبحانه أعلم بالمقاصد والنيات.. وفي اختلافهم رضي الله عنهم في هذه المسألة وعدم تعنيف أو عتاب النبي صلى الله عليه وسلم لهم دلالة هامة على تقرير مبدأ الخلاف في مسائل الفروع، والأدب عند الخلاف، والاجتهاد في استنباط الأحكام الشرعية، ولا دلالة فيه على أن كل مجتهد مصيب. قال ابن حجر: "فتخوَّف ناس فوت الوقت فصلوا، وتمسك آخرون بظاهر الأمر فلم يُصَلُّوا، فما عنَّف أحداً منهم من أجل الاجتهاد الْمُسَوِّغ وَالْمَقْصِد الصالح، والله أعلم". وقال أيضا: "الاستدلال بهذه القصة على أن كل مجتهد مصيب على الإطلاق ليس بواضح، وإنما فيه ترك تعنيف من بذل وسعه واجتهد، فيستفاد منه عدم تأثيمه، وحاصل ما وقع في القصة أن بعض الصحابة حملوا النهي على حقيقته، ولم يبالوا بخروج الوقت ترجيحاً للنهي الثاني على النهي الأول، وهو ترك تأخير الصلاة عن وقتها، واستدلوا بجواز التأخير لمن اشتغل بأمر الحرب بنظير ما وقع في تلك الأيام بالخندق. والبعض الآخر حملوا النهي على غير الحقيقة، وأنه كناية على الحث والاستعجال والإسراع إلى بني قريظة، وقد استدل به الجمهور على عدم تأثيم من اجتهد، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يعنف أحداً من الطائفتين، فلو كان هناك إثم لعنف من أثم".
وقال النووي: "وأما اختلاف الصحابة رضي الله عنهم في المبادرة بالصلاة عند ضيق وقتها وتأخيرها فسببه أن أدلة الشرع تعارضت عندهم بأن الصلاة مأمور بها في الوقت، مع أن المفهوم من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يصلين أحد الظهر أو العصر إلا في بني قريظة) المبادرة بالذهاب إليهم، وأن لا يشتغل عنه بشيء، لا أن تأخير الصلاة مقصود في نفسه من حيث إنه تأخير، فأخذ بعض الصحابة بهذا المفهوم نظراً إلى المعنى لا إلى اللفظ، فصلوا حين خافوا فوت الوقت، وأخذ آخرون بظاهر اللفظ وحقيقته فأخروها، ولم يعنف النبي صلى الله عليه وسلم واحداً من الفريقين لأنهم مجتهدون، ففيه دلالة لمن يقول بالمفهوم والقياس ومراعاة المعنى ولمن يقول بالظاهر أيضا، وفيه أنه لا يُعَنَّف المجتهد فيما فعله باجتهاده إذا بذل وسعه في الاجتهاد، وقد يُستدل به على أن كل مجتهد مصيب، وللقائل الآخر أن يقول لم يصرح بإصابة الطائفتين بل ترك تعنيفهم، ولا خلاف في ترك تعنيف المجتهد وإن أخطأ إذا بذل وسعه في الاجتهاد، والله أعلم".
فوائد :
ـ قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة) رواه البخاري. وجاء في رواية مسلم في صحيحه: (الظهر)، بدل (العصر)، قال النووي: "ويحتمل أنه قيل للجميع: لا تصلوا الظهر ولا العصر إلا في بني قريظة ويحتمل أنه قيل للذين ذهبوا أولا: لا تصلوا الظهر إلا في بني قريظة وللذين ذهبوا بعدهم: لا تصلوا العصر إلا في بني قريظة"، وقال ابن حجر: "جمع بعض العلماء بين الروايتين باحتمال أن يكون بعضهم قبل الأمر كان قد صلى الظهر، وبعضهم لم يصلها، فقيل لمن لم يصلها: لا يصلين أحد الظهر، ولمن صلاها لا يصلين أحد العصر، وجمع بعضهم باحتمال أن تكون طائفة منهم راحت بعد طائفة، فقيل للطائفة الأولى الظهر، وقيل للطائفة التي بعدها العصر.. وكلاهما جمع لا بأس به".
ـ قال ابن القيم في بيان أي الفريقين حاز الفضل: "كل من الفريقين مأجور بقصده، إلا أنَّ مَنْ صلّى حاز الفضيلتين: امتثال الأمر في الإسراع، وامتثال الأمر بالمحافظة على الوقت ولاسيما ما في هذه الصلاة بعينها من الحث على المحافظة عليها، وأنَّ مَنْ فاتته حبط عمله، وإنما لَمْ يُعَنِّفِ الذين أخروها لقيام عذرهم في التمسك بظاهر الأمر، ولأنهم اجتهدوا فَأَخَّرُوا لامتثالهم الأمر، لكنهم لَمْ يَصِلُوا إلى أن يكون اجتهادهم أَصْوَبَ من اجتهاد الطائفة الأخرى".
ـ قال الألباني: "وأما حمل الحديث: (لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة) على الإقرار للخلاف فهو باطل لمخالفته للنصوص القاطعة الآمرة بالرجوع إلى الكتاب والسنة عند التنازع والاختلاف كقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}(النساء: 59)، وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا}(الأحزاب: 36)، وإن عجبي لا يكاد ينتهي من أناس يزعمون أنهم يدعون إلى الإسلام، فإذا دعوا إلى التحاكم إليه قالوا: قال عليه الصلاة و السلام: (اختلاف أمتي رحمة) وهو حديث ضعيف لا أصل له".
السيرة النبوية بغزواتها وأحداثها تحمل بين ثناياها الكثير من الدروس والعبر، والفوائد والأحكام، ومن هذه الدروس التي ظهرت في غزوة بني قريظة من خلال قوله صلى الله عليه وسلم: (ألا لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة) أدب الخلاف عند صحابة النبي صلى الله عليه وسلم .