عثمان بن عفان رضي الله عنه أحد العشرة المبشَّرين بالجنة، وواحد من السِّتة الذين تُوُفي النبي صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راضٍ، وهو زوج ابنتي النبي صلى الله عليه وسلم رقية وأم كلثوم، ولذا لُقِّبَ بذي النورين، قال الذهبي في "سير أعلام النبلاء": "عن الحسن قال: إنما سُمِّيَ عثمان ذا النورين لأنا لا نعلم أحداً أغلق بابه على ابنتي نبي غيره".. ولعثمان رضي الله عنه مواقفُ كثيرة وعظيمة، تدل على فضله وكرمه، وبذله ونُصرته للإسلام، قال الذهبي: "ولم ينفق أحد أعظم من نفقة عثمان رضي الله عنه". وقال الزهري: "قد اشتهر رضي الله عنه بالكرم والإنفاق في سبيل الله". ومن مواقفه رضي الله عنه المشهورة والمعروفة عنه: شراؤه لبئر رومة وجعله للمسلمين.
لما قدِم المهاجرون المدينة المنورة لم يستسيغوا ماءها، وكان بئر رومة من أعذب مياه الآبار في المدينة، فكانوا يستقون منه بالثمن، فأرهقهم ذلك، فعندئذٍ حثَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه إلى شراء بئر رومة والتبرع به للمسلمين، ووعد على ذلك بعين في الجنة، فاشتراها عثمان بن عفان رضي الله عنه وجعلها وقْفاً للمسلمين. قال ابن كثير في البداية والنهاية: "بئر رومة: بضم الراء: بئر بالمدينة اشتراها عثمان رضي الله عنه وسبلها: أي جعلها وقفا". وفي معجم الصحابة للبغوي، والمعجم الكبير للطبراني، وفي سنن الترمذي عن بشر بن بشير الأسلمي عن أبيه قال: (لما قدم المهاجرون المدينة استنكروا الماء (لم يستسيغوا طعمه)، وكانت لرجل من بني غفار عين (ينبوع الماء الذي ينبع من الأرض ويجري) يقال لها: رومة، وكان يبيع منها القِربة بمُد (مقدار ما يملأ الرجل كفيه طعاما)، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: تبيعنيها بعين في الجنة؟ فقال: يا رسول الله ليس لي ولا لعيالي غيرها، فبلغ ذلك عثمان رضي الله عنه فاشتراها بخمسة وثلاثين ألف درهم، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أتجعل لي فيها ما جعلت له؟ قال: نعم، قال عثمان: قد جعلتها للمسلمين). وفي رواية: (فاشتريتها من صلب مالي)، وقد استدل الإمام السندي بقول عثمان رضي الله عنه في قوله في وقفه لبئر رومة للمسلمين: "(من صلب مالي) على أنه يُستحب للواقف أن يختار الغالي والنفيس، ويبتعد عن الحقير الخسيس في الوقف والصدقة، لأن عثمان رضي الله عنه أخبر أن هذا الوقف من صلب ماله، وصلب المال كما فسره العلماء: "أصل المال وخياره".
وفي صحيح البخاري أن عثمان بن عفان رضي الله عنه حين حُوصِر قال: (أنشدكم بالله ولا أنشد إلا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ألسْتُم تعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من جهز جيش العسرة فله الجنة، فجهزتُه؟ ألستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من حفر بئر رومة فله الجنة، فحفرتُها؟ فصدّقوه فيما قال). وعن ثمامة بن حزن القشيري قال: ( شهدتُ الدار حين أشرف عليهم عثمان فقال: (أنشدكم بالله وبالإسلام هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وليس بها ماء يستعذب غير بئر رومة؟ فقال: من يشتري بئر رومة يجعل دلوه مع دلاء المسلمين بخير له منها في الجنة؟ فاشتريتها من صلب مالي فجعلتُ دَلوي فيها مع دِلاءِ المُسلمين) رواه النسائي وصححه الألباني.
قال النووي: "(أنشدكم بالله) أي: أسألكم بالله، مأخوذ من النشيد، وهو رفع الصوت"، وفي شرح سنن النسائي: "وقوله: (أنشدكم بالله، وبالإسلام) أي أسألكم رافعا نشيدتي، أي صوتي، مذَكِّرا إياكم بالله، ومطالبا لكم العمل بمقتضى الإسلام، فإنه يوجب على المسلمين، أن يناصحوا ولي أمرهم، ويدافعوا عنه، ويصدقونه في أخبارهم، وشهاداتهم. وقوله: (ليس في المدينة ماء يستعذب فيه الماء) أي يطلبه الناس ليشربوه عذبا، أي حلوا".
وقال الطيبي: " قوله: (شهدت الدار) أي حضرت دار عثمان التي حاصروه فيها. و(بئر رومة) بضم الراء اسم بئر بالمدينة اشتراه عثمان رضي الله عنه ثم سبلها (أوقفها). وقوله: (مع دلاء المسلمين) أي ليجعل دلوه مصاحباً وواحداً من دلاء المسلمين ولا يختص بها دون المسلمين، وهو كناية عن الوقف والتسبيل. وقوله: (مع دلاء المسلمين) أي ليجعل دلوه مصاحباً وواحداً من دلاء المسلمين ولا يختص بها دون المسلمين، وهو كناية عن الوقف والتسبيل". وقال ابن هبيرة: "في هذا الحديث ما يدل على فضل عثمان رضي الله عنه بتجهيز جيش العسرة، وحفر بئر رومة، وتصديق المسلمين له على ذلك وعلى ما وعده رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثواب فعله ذلك. وفيه أيضاً جواز أن يستدفع الرجل شر الجاهلين عنه بذكر أعماله التي يوضح بها مقامه من الدين إذا كان يدفع به الأذى عنه".
فائدة :
عثمان بن عفان رضي الله عنه اشترى بئر رومة بداية وحفرها ووسّعها بعد ذلك، ففي رواية الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من يشتري بئر رومة، فيجعل دلوه مع دلاء المسلمين بخير له منها في الجنة، فاشتريتها من صلب مالي). وفي رواية البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من حفر رومة فله الجنة، فحفرتها)، قال ابن بطال: "هذا وهْم من بعض رواته، والمعروف أن عثمان رضي الله عنه اشتراها لا أنه حفرها".
وقال ابن حجر في فتح الباري في الجمع بين الروايتين: "قوله: (من حفر رومة) قال ابن بطال: هذا وهْم من بعض رواته، والمعروف أن عثمان اشتراها لا أنه حفرها. قلتُ: هو المشهور في الروايات .. لكن لا يتعيّن الوهْم، فقد روى البغوي من طريق بشر بن بشير الأسلمي عن أبيه قال: (لما قدم المهاجرون المدينة استنكروا الماء، وكانت لرجل من بني غفار عين يقال لها رومة، وكان يبيع منها القربة بمُدّ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: تبيعنيها بعين في الجنة؟ فقال: يا رسول الله ليس لي ولا لعيالي غيرها، فبلغ ذلك عثمان رضي الله عنه فاشتراها بخمسة وثلاثين ألف درهم، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أتجعل لي فيها ما جعلت له؟ قال: نعم، قال: قد جعلتُها للمسلمين، وإن كانت أولاً عيناً فلا مانع أن يحفر فيها عثمان بئراً، ولعل العين كانت تجري إلى بئر فوسّعها وطواها فنُسِبَ حفرها إليه".
عثمان بن عفان رضي الله عنه له مواقف كثيرة وعظيمة تدل على فضله وبذله ونُصرته للإسلام، ومنها شراؤه وحفره بئر رُومَة وتصدقه به على المسلمين، وقد شهد النبي صلى الله عليه وسلم لعثمان رضي الله عنه بالجنة في مواقف وأحاديث كثيرة، وقال عنه بعد موقفه في غزوة تبوك: (ما ضرَّ عثمان ما عمل بعد اليوم) .