كان المستعمرون الغزاة يهدفون من وراء غزوهم الفكري للمسلمين إلى تحقيق هدفين أساسيين:
الهدف الأول: إنشاء جيل متجانس لهم في ثقافتهم ليسهل عليهم الاتصال به والتفاهم معه.
الهدف الثاني: (وهو أخطر الهدفين): أن تخلو الأجيال المقبلة من الدين ومن الثقافة الإسلامية، ومن الحمية الدينية.
ومن أجل تحقيق هذين الهدفين ركزوا غزوهم الفكري في ميدان الثقافة بجانب ما يقومون به من غزو في ميدان التعليم - الذي سبق الحديث عنه- والمقصود بميدان الثقافة: كل ما يتعلق بالفكر الغربي، وفلسفة حياته، وأنماط سلوكه، وعاداته وتقاليده الخاصة، التي تغاير في جوهرها الكلي أنماط الحياة الإسلامية.
ولا شك أن هذا الميدان يزيد على ميدان التعليم حيث يمتد مع مجالات الحياة المختلفة، وفي هذا المجال العريض والواسع، انطلق الغربيون يغزون المسلمين غزواً مركزاً، حتى يحققوا ما يهدفون إليه من صرف المسلمين عن دينهم صرفاً تاماً، وقد تعددت أساليب هذا الغزو الثقافي وتنوعت ونقتصر منها على ما يلي:
1- قيام الغزاة بطبع ونشر سيل من الكتب والمطبوعات المتنوعة من المقالات والبحوث التي تمجد أوروبا، وتصف حضارتها وتطورها، وكيف وصلت إلى هذا كله عبر الصراع مع الكنيسة ورجال الدين، وعزلهم عن الحياة، والدعوة -تصريحاً أو تلميحاً- إلى سحب هذا المعنى على كل دين، باعتباره طوراً متخلفاً من أطوار الحياة أدى دوره في القرون الوسطى، ولا يصلح لمجاراة العصر الحاضر بتقدمه العلمي إلى آخر ما يزعمون.
لكن هذه المطبوعات لن يتحقق لها الانتشار إلا بعد أن يتم الترويج لها والكتابة عنها في وسائل الإعلام، ولم يكن هناك أجدى من الصحافة في هذا الوقت، وكانت الصحافة من أخطر الأدوات العصرية التي اعتمدوا عليها باعتبارها أكثر شيوعاً وأبعد تأثيراً، سواء كانت محلية أو مستوردة مجلوبة من وراء البحار والحدود، تحمل للمسلمين قيماً جديدة، وتحفل بضروب من الأفكار المخربة، وأحاديث الجنس الفاضحة، والصور العارية، والقصص البذيئة، والمقالات والبحوث التي تتناول كثيراً من المقدسات الدينية بالنقض والتجريح في غير ما حرج".[الغزو الفكري والتيارات المعادية، ص61، 83-84].
وإذا كانت الكتابة بصفة عامة زاد المثقفين، فإن الصحافة زاد شامل، يشمل المثقفين وأنصاف المثقفين، كما يشمل العامة حتى الذين لا يقرؤون منهم حيث كانوا يتحلقون حول من يقرأ لهم الصحيفة في أعماق الريف بمصر.
ففي مصر بالذات قامت الصحافة بدور خطير لعله أخطر الأدوار، إذ كانت مصر في نظر الغزاة هي مركز التوجيه الروحي والثقافي؛ بسبب موقعها الجغرافي ومكانتها التاريخية، وبسبب وجود الأزهر فيها، فإذا أمكن إفسادها من الناحية الإسلامية كان ذلك عوناً كبيراً للذين يخططون لإفساد العالم الإسلامي كله، وليس من قبيل الصدف أن تنشأ الصحافة في مصر - قلب العالم الإسلامي وبلد الأزهر - على يد الموارنة النصارى:
فدار الأهرام على يد آل تقلا، ودار الهلال على يد آل زيدان، ودار المقطم على يد آل صروف.
وقد لقي القائمون على هذه الدور الحماية الكاملة على يد المستعمرين حتى ذاع صيتها وانتشرت، وقامت بدور كبير في تشويه وإفساد القيم الإسلامية".[واقعنا المعاصر، ص220-234].
وليس معنى ذلك أن كل دور الصحافة في فترة الاحتلال البريطاني في مصر كانت عميلة للاستعمار الغربي، وإنما كانت هناك صحف يطلق عليها الصحافة الوطنية الإسلامية مثل جريدة (اللواء) وجريدة (المؤيد)، وجريدة (العروة الوثقى)، وقد حاولت هذه الصحف أن تقاوم أثر الصحف المأجورة، لكن الاستعمار قام بمصادرتها واضطهاد كتابها وأصحابها.[المدخل إلى الثقافة الإسلامية للدكتور محمد رشاد سالم، ص55-ص57].
وليس من شك في أن الصحافة وأمثالها أسلحة عظيمة في نهضات الأمم وتطورها في العصر الحاضر، ولكنها في ظل الاحتلال وعلى يد تلاميذه تحولت إلى أسلحة فاسدة، مرتدة إلى صدور أمتنا اجتماعياً وفكريا ودينياً.
فقد لعبت الصحافة دوراً كبيراً وخطيراً في إفساد العقيدة وتدمير الأخلاق، وتزوير التاريخ، وعلى سبيل المثال: قد أصدرت "دار الهلال" عدداً كبيراً من المجلات التي أثرت تأثيراً كبيراً في المصريين والعرب، ويكفي أن نتذكر الدور الذي قام به مؤسس تلك الدار "جورجي زيدان" من تشويه لتاريخ الإسلام وطعن فيه، وذلك في "روايات تاريخ الإسلام"، حيث قدم فيها جوانب من التاريخ الإسلامي معروضة بأسلوب قصصي يغري بالقراءة والمتابعة، ولكنه يحوي قدراً كبيراً من المغالطة والافتراء.
"وشهد شاهد من أهلها"
ولندع الحديث لراصد أوروبي خبير، يشهد على قومه لتتضح لنا أبعاد المعركة، وأنها عداوة شاملة للإسلام، يذكر المستشرق الإنجليزي "جب" حين يستعرض أنجح الوسائل لتغريب المسلمين تغريباً حقيقياً، يهضمون فيه الحضارة الغربية، حتى تصبح فيهم شيئاً ذاتياً لا مجرد تقليد للغرب أنه: "للوصول إلى هذا التطور الأبعد.. الذي تصبح الأشكال الخارجية بدونه مجرد مظاهر سطحية، يجب ألا ينحصر الأمر في الاعتماد على التعليم في المدارس، بل يجب أن يكون الاهتمام الأكبر منصرفاً إلى رأي عام، والسبيل إلى ذلك هو الاعتماد على الصحافة" ويبين "أن الصحافة هي أقوى الأدوات الأوروبية، وأعظمها نفوذاً في العالم الإسلامي".
ويستطرد "جب" في إبراز ما حققه الغزاة من نتائج رهيبة فيقول: "إن النشاط التعليمي والثقافي - عن طريق المدارس العصرية والصحافة - قد ترك في المسلمين - من غير وعي منهم - أثراً جعلهم يبدون في مظهرهم العام لا دينيين إلى حد بعيد" ويعقب على ذلك بقوله: "وذلك خاصة هو اللب المثمر في كل ما تركت محاولات الغرب لحمل العالم الإسلامي على حضارته من آثار، إن الإسلام كعقيدة لم يفقد إلا قليلاً من قوته وسلطانه، ولكن الإسلام كقوة مسيطرة على الحياة الاجتماعية قد فقد مكانته، فهناك مؤثرات أخرى تعمل إلى جانبه وهي - في كثير من الأحيان - تتعارض مع تقاليده وتعاليمه تعرضاً صريحاً، ولكنها تشق طريقها بالرغم من ذلك إلى المجتمع الإسلامي في قوة وعزم... وبذلك فقد الإسلام سيطرته على حياة المسلمين الاجتماعية، وأخذت دائرة نفوذه تضيق شيئاً فشيئاً حتى انحصرت في طقوس محدودة".
ويقرر "جب" بأنه قد مضى هذا التطور الآن إلى مدى بعيد، ولم يعد من الممكن الرجوع فيه، وقد يبدو الآن من المستحيل - مع تزايد الحاجة إلى التعليم، ومع تزايد الاقتباس من الغرب - أن يصد هذا التيار"، وينتهي إلى القول: بأن "العالم الإسلامي سيصبح خلال فترة قصيرة لا دينياً في كل مظاهر حياته، ما لم يطرأ على الأمور عوامل ليست في الحسبان فتغير اتجاه التيار".[راجع كتابه وجهة الإسلام].