ودع العالم الإسلامي يوم الجمعة الماضي ( 7 رمضان 1438 هـ ) ، رجلاً من رجال الدعوة و القرآن ممن كانت لهم إسهامات فكرية ودعوية و أكاديمية أثْرت المكتبة الإسلامية في مصر والعالم الإسلامي، فضلاً عن جهوده الأخرى المتمثلة في جولاته الدعوية ومحاضراته ولقاءاته التلفزيونية والإذاعية التي عرفت بالعمق والتنوع والجرأة في الحق.
إنه العالم المفسر الداعية عضو هيئة كبار العلماء في الأزهر الشريف ،المربي وأستاذ التفسير في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقا الشيخ محمد الراوي
الرجل القرآني الذي كان من النوادر الذين جمعوا بين العلم والعمل ، وبين معرفة دقائق التفسير وحقائق التاريخ ، كان قلباً يتحرق على أحوال أمته ولسان صدقٍ ينافح عنها
رجل المواقف المشهودة ، صدح وصدع بالحق ،وما خاف يوما في الله لومة لائم ،رحل عن دنيا الناس وذكره عند الله أعلي وأبقي
علم من أعلام أمتنا ، ورمز من رموزها وشمس من شموسها ، عاش علي الحق ثابتا ، و توفي كالجبال شامخا
من الشيوخ القلائل الذين تمتلئ الصدور بالهيبة عندما تراه وتشعر عندما تسمع كلامه بالصدق والحرقة على حال الأمة.
كان الشيخ إلى وقت قريب مشاركا ومتفاعلا قويا في وسائل الإعلام، يبشر الناس بانتصار الإسلام، ويؤكد في نبرة صوته وتنغيمه المميز أن الزمن والمستقبل لهذا الدين، مهما استطالت الظروف الصعبة التي تحدق بالأمة في الكثير من أوطانها، كما كان يؤكد على ضرورة وحدة المسلمين في مواجهة أعدائهم.
رجل من أهل القرآن
عاش الشيخ الراوي بالقرآن وللقرآن ومع القرآن ، عاش مع القرآن ودعا به وإليه ، عاش يحمل رسالته حتى لقي وجه ربه ، له منهج في التفسير دقيق ورائع؛ بل وهو ممن فتح الله عليهم في فهم القرآن العظيم وتدبره
تعلق الشيخ منذ صغره بالقرآن الكريم، وامتد شغفه بالقرآن دراسة وتدريسا، بالدرجة التي جعلته يسحب أوراقه من كلية اللغة العربية، ويتقدم في كلية أصول الدين، ويروى الشيخ ـ رحمه الله ـ هذه الواقعة في أحد حواراته فيقول: "أحببت أصول الدين بسبب القرآن الكريم، ودخلت بعد تفوقي في الثانوية الأزهرية كلية اللغة العربية، فقمت بسحب أوراقي منها لكي ألتحق بأصول الدين، فذهل الناس؛ لأن اللغة العربية كانت مطلوبة في ذلك الوقت، ولأن الدارسين بها يعملون في المدارس والمعاهد مباشرة بعد التخرج، لكن حبي الشديد للقرآن ودراسته، جعلني أوثره على كل شيء، وأرى فيه متعتي غير العادية منذ الطفولة".
كان رجلا قرآنيا بحق عظيم التأثر بالقرآن كثير الاستشهاد به في دراية تدعو للدهشة والعجب من قوة حجته بالقرآن
كم أشجى وحرك القلوب بآيات القرآن كأنما تسمعها أول مرة ،كان يتلو الآيات فتخشع القلوب وتذرف العيون من صدق لهجته وشدة غيرته وعظمة حميته
صاحب البصمات القوية في الدراسات العليا القرآنية عموما وفي جامعة الإمام محمد بن سعود خصوصا تخرج على يديه في علوم القرآن وتفسيره مئات من حملة الدكتوراة في السعودية و مصر وغيرها
قد كان قرآنيا عظيم التأمل في كتاب الله واسع الاستحضار لآياته ، بأسلوب جذاب ومتنوع وذو إقناع فريد من نوعه وصوت شجي ، كم لكلماته ونبرة صوته من أثر في القلوب
أوتي عذوبة في تلاوة القرآن بصوت شجي لا تسمعه من غيره، تجد ذلك في برامجه وفي الصلاة الجهرية خلفه رحمه الله
حلقاته في التلفاز السعودي وإذاعة القرآن الكريم في تفسير القرآن كانت مميزة ومؤثرة
إذاعة القرآن الكريم
يقول الشيخ الراوي عن أول محاضرة له في السعودية : بدأت أول محاضرة عامة فيها في قاعة كلية الشريعة جامعة الإمام ، حيث كانت في شارع الوزير ، وكان موضوع المحاضرة الإسلام في نيجيريا ، وقد طلب ذلك مني بحكم إقامتي فيها وقدومي إلى الجامعة منها . وكان لها أثرها وتأثيرها وبخاصة حين ختمت المحاضرة بقولي : لقد كنت أسمع صوت الإنجيل يدوي من وسائل الإعلام في أفريقيا . فهل من غيور على الإسلام يسمع الناس جميعا صوت القرآن ؟
وما هي إلا أيام قلائل حتى رأيت ذلك في واقع الأمر حيث أمر المغفور له جلالة الملك فيصل بإنشاء إذاعة القرآن التي امتد نفعها في كل مكان . ولم تنقطع صلتي بها وأحاديثي فيها مدة إقامتي الطويلة في المملكة العربية حفظها الله ورعاها .
وكما كان حاضرا في الإذاعة السعودية، كان حاضرا أيضا في الإذاعة المصرية، عبر البرامج الدينية الصباحية التي تركز على موعظة مختزلة، ينتفع منها الناس حين يبدأون يومهم. بالإضافة إلى قيامه بتسجيل ما يقرب من 400 حلقة تذاع يوميا على محطة إذاعة القرآن الكريم بالقاهرة، حملت اسم "مقدمة التلاوة"، وهي تسبق كل التلاوات القرآنية.
كما أشرف ـ رحمه الله ـ على عمل مقدمة للمصحف الوثائقي الذي جمعته إذاعة القرآن بالقاهرة، فجمع بين القراء القدامى، ووصل بينهم في مصحف متكامل بلا انقطاع.
نشأته و دراسته
ولد الشيخ محمد محمد عبد الرحمن الراوي في 1 فبراير من عام 1928 م ، الموافق 9 من شهر شعبان عام 1346 هجرية بقرية ريفا في محافظة أسيوط ،
مات أبوه وكان عمر الشيخ الراوي سنتين ، فتكفل بتربيته الشيخ محمد فرغلي ، وهو خاله، ورعاه وعلمه وأدبه ، وألحقه بالكُتّاب ، وحفظ القرآن الكريم في سن الثالثة عشر ، وبعدها التحق بالمعهد الديني في أسيوط سنة 1941 م
حيث كانت المعاهد الأزهرية لا تقبل الطالب في السنة الأولى إلا بحفظ القرآن الكريم كله .
ويبقى الطالب في المعهد تسع سنوات ، أربع سنوات في القسم الابتدائي وخمس سنوات في القسم الثانوي .
وعقب حصوله على شهادة الثانوية الأزهرية بتفوق تقدم إلى كلية اللغة العربية، إلا أنه تحول منها إلى كلية أصول الدين بالقاهرة سنة 1950 م وحصل منها على الشهادة العالية عام 1954م
ثم حصل على الشهادة العالمية مع تخصص التدريس من كلية اللغة العربية –جامعة الأزهر عام 1956م
حياته العملية :
عمل الشيخ الراوي فور تخرجه بقسم الدعوة في وزارة الأوقاف، فعين إمامًا وخطيبًا في مسجد خالد بن الوليد بمحافظة الإسماعيلية، كما عمل إمامًا وخطيبًا لمسجد الزمالك – بناء على ترشيح من الشيخ محمد الغزالي الذي شغل منصب مدير المساجد في ذلك الوقت- ،ثم أصبح مفتشًا عامًا في مراقبة الشؤون الدينية بعد مسابقة عامة لجميع المفتشين كان ترتيبه الأول على الناجحين، ثم نقل بعدها للعمل بالمكتب الفني بمجمع البحوث الإسلامية .
وفي عام 1965 م سافر ضمن بعثة للأزهر الشريف إلى دولة نيجيريا لتدريس اللغة العربية وعلوم القرآن
ربع قرن في السعودية
- طلب لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض وانتقل إليها بداية من العام الدراسي 1390-1391هـ ( 1970 م – 1971 م ) واستمر بها مدة تزيد على خمس وعشرين سنة عمل خلالها مدرسًا للتفسير وعلوم القرآن والحديث بكلية اللغة العربية ، وكلية العلوم الاجتماعية من بداية إنشائها ، كما أسهم في إنشاء كلية أصول الدين وعمل بها أستاذًا للقرآن وعلومه ورئيسًا لقسم التفسير أكثر من ثلاثة عشر عامًا، وقد أسهم في إنشاء المعهد العالي للدعوة الإسلامية وقام بإلقاء المحاضرات فيه، وقد أشرف الشيخ الراوي على كثير من الرسائل العلمية ما بين ماجستير ودكتوراه في كلية أصول الدين وغيرها من كليات جامعة الإمام، إضافة لاشتراكه في مناقشة كثير من الرسائل العلمية في الجامعة ذاتها، وجامعة أم القرى بمكة المكرمة، والجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وجامعة الملك سعود
جهوده الدعوية
للشيخ جهوده الكبيرة في خدمة الدعوة الإسلامية المتنوعة بين الأحاديث في القنوات الفضائية والإذاعة، والمحاضرات، والمؤلفات العلمية، كما شارك في العديد من الندوات والمؤتمرات العلمية
وكانت جهوده الدعوية تهدف إلى خدمة كتاب الله فهماً وتفسيراً وبياناً، ودعوة القرآن المسلمين إلى التوحد ونبذ الفرقة والاختلاف، وجاءت جهوده ممثلة في:
- العناية بالقرآن الكريم تلاوة وحفظاً.
- الدعوة إلى التمسك بالقرآن والسُّنة كمنهج حي علماً وعملاً.
- العناية بتربية النشء والشباب على مأدبة القرآن.
- الدعوة إلى جمع كلمة المسلمين وترابطهم في شتى المجالات لنصرة الحق وإعلاء كلمة الله، والقرآن يهدي في كل شأن للتي هي أقوم.
نال الشيخ محمد الراوي عضوية مجمع البحوث الإسلامية بالقاهرة ، وفي عام 1433هـ/2012م كان ضمن اللجنة التي شكلت من علماء الأزهر لاختيار أعضاء هيئة كبار العلماء، طبقا للشروط الواردة بالتعديلات الجديدة لقانون الأزهر
وفي شعبان 1433هـ/يوليو 2012م اختير الشيخ محمد الراوي عضوًا في هيئة كبار العلماء
مؤلفاته :
من مؤلفاته العلمية:
1- الدعوة الإسلامية دعوة عالمية (مجلد كبير ) طبع عدة مرات
2- كلمة الحق في القرآن الكريم – موردها ودلالتها (مجلدان ) طبع أكثر من مرة .
3- حديث القرآن عن القرآن
4- القرآن الكريم والحضارة المعاصرة (كتيب مطبوع )
5- القرآن والإنسان
6- الرسول في القرآن الكريم
7- الرضا
8- منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله
9- كان خلقه القرآن
10- المرأة في القرآن الكريم
وفاته :
رحل عنا العالم الجليل يوم الجمعة 7 رمضان 1438 ، الموافق 2/6/2017 ، في القاهرة عن عمر يناهز 89 عامًا وصلي عليه في الأزهر الشريف ، في خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة و في خير الشهور شهر رمضان إنها حسن الخواتيم
نسأل الله أن يجزيه أعظم الجزاء عما قدمه خدمة للإسلام ودعوته ورسالته ، وأن يخلف في الأمة خيرا من حملة الدعوة والرسالة الحكماء