لا يتحمل الفلسطينيون كل ما يتحملونه من أجل هذا. وهذا ليس حتى (غزة أولاً) كما يُسمى منذ الإعلان عنه. إنه دون ذلك بكثير. مفكرة (غزة أولاً) تفترض أن دولة فلسطينية تنشأ هناك, وتفترض التفكيك التام للمستوطنات في القطاع وتفترض مطاراً ومرفأ وتصوراً متماسكاً عن الخطوات اللاحقة.
جوهر (غزة أولاً) ترتيب سياسي, مهما بلغت درجة سوئه, أما الاتفاق الذي أعلن عنه يوم الأربعاء الماضي, فجوهره ترتيب أمني, ولعله الخطوة الأولى الجدية في رهن السلطة الفلسطينية بمخطط ما يسمى (مكافحة الإرهاب), أي التحول إلى شرطة قمع ضد الفلسطينيين أنفسهم وإلى حرس حدود ومخبرين لإسرائيل.
هناك افتراضات, يحق لمن ألف الوضع الفلسطيني المراهنة عليها, من قبيل أن أبو عمار يعرف كيف يجهض الاتفاقات التي تفرض عليه, وهو قد اتخذ حتماً الترتيبات اللازمة لذلك, وهو يمارس هنا إحدى لحظات إجادته للتكتيك. وهناك تبريرات ترافق هذه المراهنات, من قبيل أن أبو عمار يلتف, بموافقته, على الضغوط الكبيرة التي تمارس عليه وبعضها عربي على ما قيل, وإنه يراهن على إحداث انقسام في القيادة الإسرائيلية على اعتبار أن الخطة المقترحة تعود لوزير الدفاع بنيامين بن اليعازر, زعيم حزب العمل, وأن الوضع الفلسطيني أمام مأزق قاس ولا سبيل للخروج منه إلا برمي الكرة في ملعب العدو. وهناك أيضاً خطاب الدفاع عن قرار الموافقة على المقترح, وهو خطاب يشبه بصورة مقلقة خطابات الأنظمة العربية التي تنتقل من هزيمة إلى أخرى, وهي إذ تفعل ذلك تنتج كلاماً يحول التراجع إلى انتصار.
هكذا تصبح عودة إسرائيل إلى التعامل مع السلطة الوطنية الفلسطينية وأجهزتها, دليلا على هزيمة مخططاتها ومكسبًا قائمًا بذاته. ووفق هذا المنطق, حققت السلطة الفلسطينية نصراً هذا الأسبوع!
فالاتفاق يتم معها, توقعه هي, تملك مبدئياً حق قبوله أو رفضه, هي التي قيل عنها إنها لم تعد موضع ثقة أو طرفاً صالحاً, وهؤلاء الذين قالوا ذلك يجبرون على التعامل معها, فيلتقي وزير الداخلية الفلسطيني مع بن اليعازر وبيريز, ويسافر وفد من وزراء في السلطة الفلسطينية إلى واشنطن ويستقبله كولن باول وكوندوليزا رايس.
يجسد هذا المنطق انعدام العلاقة بالزمن, ذلك المرض الخطير الذي يعدم الرؤية ويحجب الأفق, فيتحول الفعل إلى سلسلة لامتناهية من التكتيكات التي لا يجمع بينها إلا هاجس إدارة الواقع يومياً, من دون تبصّر في الوجهة والمسار. فينتهي الأمر بأصحابه في أسفل قعر من دون انتباه منهم, وهم كلما انحدروا أفرطوا في التعويض الكلامي من جهة, ولجؤوا إلى القمع وسد الأفواه وتصفية المعترضين وتعطيل العقل والإرادة, من جهة أخرى. إنما الواقع الفلسطيني, ولأنه يقع على استعصاءات متعددة, لا يدار يومياً.
وتلك ليست مسؤولية السلطة الفلسطينية وحدها, فإحدى النقائص التي فتحت باباً أمام ما نحن فيه اليوم هي عجز القوى السياسية الفلسطينية عن بلورة موقف وطني يحدد المطلوب والممكن, وأدواتهما, ويلتزم بما يؤدي ويقود إليهما.
لقد خطت المنظمات المختلفة, وبالتحديد الجبهة الشعبية وحماس والجهاد, نحو القبول بمطلب انسحاب إسرائيل حتى حدود الرابع من حزيران (يونيو) 1967. وكان ذلك تطورًا سياسيًا خطيرًا, إلا أنه لم يترافق مع تحديد مستلزمات هذا الموقف. بل إن الموقف ذاته كان يخضع أحياناً للإنكار, لاعتبارات تقع في باب المزايدة أو المراوغة. هكذا, مثلاً, استمرت العمليات الاستشهادية غير مضبوطة بمقياس سياسي, وغلب اعتبار القدرة العملية على التنفيذ على ما عداه, وفي ذلك كارثة لم ينجح أحد في وقف تداعيات نتائجها. وقد صنع ذلك ما نحن فيه اليوم, أو إنه ساهم في صناعته على أقل تقدير.
وعلى صعيد آخر, واجه الشعب الفلسطيني ويواجه الاغتيالات والقتل الجماعي والاعتقالات والاجتياحات ومنع التجول المديد والحصارات والدمار المعمم والجوع وانتشار الأمراض الوبائية, وكان صموده الخيالي هو النصر الذي يملك أن يحققه. إلا أن مقاومة المقاتلين والناس في مخيم جنين وفي قصبة نابلس, وحصار المقاطعة وصورة تلك الشمعة تضيء وجه أبو عمار وصوته يردد (شهيداً شهيداً شهيداً), والآلاف التي تشيع كل مرة, كل يوم, الشهداء بغضب... ذلك كله لم يُوظف, لم يُثمّر, بل استُخدم في تحقيق اتفاقات بعد مساومات أصابت بالإحباط من ضحى ويضحي, ومعه من يساند, على المستويين العربي والعالمي.
تُبنى الأمم أولاً وقبل كل شيء بواسطة المثال, وهو من الأسطورة. ما زالت إسرائيل, هذا الكيان المصطنع, تستحضر كلما لزم الأمر (الماسادا), تلك الانتفاضة اليهودية بوجه روما في العام سبعين بعد المسيح, وتجد لها, كلما لزم الأمر, ترجمات معاصرة, وتصوغ الأخلاق والسلوك التي تنتهجها على أساسها.
يملك الفلسطينيون الصمود, وهو نصرهم الخاص, إذ كل المعطيات الموضوعية تعاكس آمالهم. يملك الفلسطينيون أن يعينوا بوضوح ما يريدون وما لا يريدون, وأن يطلبوا من العالم الاصطفاف على أساس ذلك, فيتحقق تماسك داخلي وتخاض المعركة في فلسطين وفي العالم, على أساس الاعتبارات الأخلاقية, تلك التي قال عنها نابوليون : إنها ثلاثة أرباع عوامل النصر.
تحدث هزيمة الفلسطينيين حين يتم تبديد الصمود, حين يجري التصرف على أساس حساب موازين القوى من دون اعتبار الصمود أحدها, من دون اعتبار الحق الأخلاقي أحدها. فذلك وهذا هما نقاط القوة الفلسطينية, وهي عملية تفاعلية وتغييرية, أي أنها عملية ثورية لا تفترض الوصول إلى ترتيبات منجزة وسريعة.
وأمام الوضع الفلسطيني خيارات, ربما كان أحدها إعلان الهزيمة. وهناك, في الوضع الفلسطيني, فارق كبير بين الهزيمة والاستسلام: يمكن للسلطة الوطنية الفلسطينية أن تعلن انتهاءها بوصفها كذلك, وأن تعلن أن إسرائيل أنجزت إعادة الاحتلال وأنجزت ضرب أوسلو وتصفية الاتفاقات التي ترتبت عليه, وأنها تدعو الناس إلى المقاومة المدنية والسلمية, وأنها تحل الشرطة والأمن وتتحول إلى مرجع سياسي, قيادةً لمجتمعها.
هذا خيار تترتب عليه بالتأكيد نتائج - تصفيات واعتقالات ليست أفظع مما يلوح في الأفق اليوم.
ويملك الوضع الفلسطيني أيضاً أن ينظم الصمود, سياسياً ومدنياً وحتى عسكرياً. وهذا خيار آخر تترتب عليه نتائج, إلا أنها هي الأخرى ليست بالتأكيد أقسى مما يلوح في الأفق اليوم.
وفي الحالين, يفترض أن يكون آخر هموم السلطة, بكل رموزها, الحفاظ على الوضع القائم. وهذا هو الوهم الأخير, لأن الوضع القائم أصابه النخر ولم يبق منه إلا المناصب والمكاسب, والرضا والاعتراف كحد أقصى, وهذه ليست أهدافاً سياسية ولا يمكن أن تكون, بينما الوضع الفلسطيني لا يملك ترف استقرار الفساد والتفاهة.
ولا يمكن لذلك الوجه الذي أضاءته, في أحد أيام نيسان (ابريل) الماضي, تلك الشمعة التي تحولت أسطورة, أن يفوته ذلك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عن الحياة (11/8/20