"هذا المنبر سره عجيب، عندما صنع كان يحتوي على أكثر من 3568 قطعة خشبية بدون أن يدق فيه أي مسمار" .
يُعرف هذا المنبر بـ"منبر صلاح الدين الأيوبي"، عِلمًا أن الذي أمر بصنعه هو نور الدين زنكي سنة 1168م ليضعه في المسجد الأقصى بعد أن يقوم بفتح المدينة.
وقد صُنِع هذا المنبر في دمشق على أيدي أمهر الحرفيين، وصُنِع من الخشم المُطعّم بالعاج والأبنوس، وله بوّابة ترتفع، فوقها تاج ثم درج يرقى إلى قوس أعلاه وشُرفة خشبيّة، فيه 12 ألف قطعة مُعشّقة متداخلة شكّلت هذا المنبر الذي يُعتبر آية في الفن والجمال وعليه نقوش وكتابات قرآنية وتاريخيّة.
بنى منبر الأقصى الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي -رحمه الله- في حلب، وذلك قبل فتحه بنيف وعشرين سنة، وأركزه صلاح الدين بعد تحرير المسجد الأقصى المبارك في مكانه في قبلة المسجد.
ولقد أبدع الصُنَّاع في صنعته، وأتمَّه في سنتين، وكان الناس يتعجبون من صنع منبر المسجد الأقصى والصليبيون يحتلون أكثر البلاد ولهم أربعة عشر جيشًا في أرضنا، ويسخر الكثيرون: كيف سيُحرَّر الأقصى وهذه الجيوش جاثمة في أرض الإسلام؟! وكان نور الدين يجيبهم: ( إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون)
وقد صنع نور الدين المنبر من خشب (الأبنوس) الخالص، ووصل الخشب بعضه ببعض عن طريق (التعشيق) دون أن يستعمل المسمار؛ وذلك ليكون المنبر بصناعته ممثلاً لجسم الأمة بتواصله وتعاونه، وشد أزر بعضها لبعض، دون ضغط من جسم غريب عليه.
يقول ابن شامة في كتاب (الروضتين في أخبار الدولتين): "بنى نور الدين وصلاح الدين من المساجد والمدارس بقدر ما بنيا من القلاع والحصون". وحكمة ذلك أن القلاع والحصون تحتاج إلى جند العقيدة الذين يحسنون صناعة الموت والشهادة، ويعرفون كيف ينصر الله المؤمنين على الكافرين، فيصبرون ويصابرون، ويشترون الجنة والنصر بدمائهم وأموالهم".
لا زال النقش بالفسيفساء المذهبة فوق المحراب موجود حتى الان ونصه "بسم الله الرحمن الرحيم. أمر بتجديد هذا المحراب المقدس وعمارة المسجد الأقصى الذي هو على التقوى مؤسس عبد الله ووليه يوسف ابن أيوب أبو المظفر الملك الناصر صلاح الدنيا والدين عندما فتحه الله على يديه في شهور سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة، وهو يسال الله إذاعة شكر هذه النعمة واجزال حظه في المغفرة والرحمة".
على هذا المنبر اعتلى خطباء وعلماء وزعماء مسلمون على مدار التاريخ، وشهد إلقاء خطب ومواعظ كان لها أثر كبير في نفوس السامعين.
وفي صباح يوم الخميس الواقع في 21 آب/ أغسطس 1969 قامت سلطات الاحتلال الإسرائيلي بإضرام النار في المنبر، واتّسع الحريق ليشمل رُبع المسجد الأقصى، وقامت الحكومة الأردنيّة مشكورا بإعادة بنائه و انشغل المكلفون بصنع منبر جديد، بالكشف عن أسرار المنبر المحترق، مستخدمين طرقا مختلفة، من بينها دراسة الصور للمنبر التي توجد في مكتبات عالمية مثل مكتبة الكونغرس، ومتاحف في لندن وعواصم أوروبية أخرى.
وقد اشترك في هذا العمل أكثر من 40 باحثا ومهندسا وصانعا من مختلف أنحاء العالم الإسلامي، مثل الأردن، وسورية، وتركيا، ومصر، وماليزيا، والمغرب، وبلغت التكاليف 2 مليون و200 ألف دينار أردني.
ومثلما اعتبر المنبر الأصلي قطعة فنية، صممها ونفذها أشهر الصانعين في العالم الإسلامي آنذاك، اعتبر المنبر الجديد أيضا قطعة فنية مميزة، فهذا المنبر الجديد مصنوع من خشب الجوز والأبنوس والعاج وتم تصميمه على أيدي مهندسين من أنحاء العالم الإسلامي.
وهو مكون من 16500 قطعة خشبية صغيرة متداخلة بأسلوب التعشيق دون استخدام مسامير أو براغ (مثل المنبر الأصلي المحترق)، ويبلغ ارتفاعه ستة أمتار، وعرضه أربعة أمتار، أما الدرج فعرضه متر واحد.