توفي النبي صلى الله عليه وسلم حين اشتد الضحى من يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول من السنة الحادية عشرة للهجرة النبوية وهو ابن ثلاث وستين سنة على الصحيح، فعن معاوية رضي الله عنه قال: (قُبِضَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث وستين سنة) رواه مسلم، وقد قضى منها النبي صلى الله عليه وسلم أربعين سنة قبل النبوة، وثلاثة عشر بعد البعثة والنبوة بمكة المكرمة، وقضى عشر سنين في المدينة المنورة بعد الهجرة، فعن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال: "أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاث عشرة سنة يوحَى إليه، وبالمدينة عشراً، ومات وهو ابن ثلاث وستين سنة"، وعن عائشة رضي الله عنها: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي وهو ابن ثلاث وستين سنة).
وكان يوم وفاته صلى الله عليه وسلم أشد الأيام وحشة وظلاماً ومُصاباً على المسلمين، بل والبشرية جمعاء، فعن أنس رضي الله عنه قال: (لما كان اليوم الذي قدم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أضاء منها كل شيء، فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كل شيء) رواه الترمذي.
وكانت بداية مرضه صلى الله عليه وسلم الذي توفي فيه بعد أن شهد جنازة في البقيع، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: (رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من البقيع فوجدني وأنا أجد صداعاً في رأسي وأنا أقول: وارأساه، فقال:بل أنا يا عائشة وارأساه) رواه ابن ماجه. ثم اشتد به المرض وهو في بيت ميمونة رضي الله عنها، فأخذ يسأل: (أين أنا غدا؟ أين أنا غدا؟ يريد يوم عائشة، فأذِنَّ له أزواجه يكون حيث شاء، فكان في بيت عائشة حتى مات عندها) رواه البخاري.
وقبيل وفاته صلى الله عليه وسلم بأيام وفي أثناء مرضه، أمر أبا بكر الصديق رضي الله عنه أن يُصلي بالناس، فصلى بهم ثلاثة أيام. فعن عائشة رضي الله عنها: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في مرَضه: مُروا أبا بكرٍ يُصَلِّي بالناس، قالتْ عائشة: قلتُ: إن أبا بكرٍ إذا قام في مَقامِك لم يُسمِع الناس من البُكاء، فمُرْ عُمر فلْيُصَلِّ. فقال: مُروا أبا بكرٍ فلْيُصَلِّ بالناس، فقالتْ عائشة: فقلتُ لحفصة: قولي إن أبا بكرٍ إذا قام في مَقامك لم يُسمِع الناس من البكاء، فمُرْ عُمَر فلْيُصَلِّ بالناس، ففعلتْ حفصة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنكنَّ لأنتُنَّ صَواحِب يوسف (أى فى إظهار خلاف ما فى الباطن)، مُروا أبا بكرٍ فلْيُصَلِّ للناس) رواه البخاري.
وفي رواية أخرى للبخاري قالت عائشة رضي الله عنها: (إن أبا بكر رجل أسيف (رقيق القلب يغلبه البكاء عند قراءة القرآن)، إذا قام في مقامك لم يستطع أن يصلي بالناس)، وفي رواية لابن حبان قالت عائشة: (لقد عاوَدْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم على ذلك، وما حمَلني على مُعاوَدَته إلَّا أنِّي خشِيتُ أنْ يتشاءَم النَّاس بأبي بكرٍ، وعلِمْتُ أنَّه لنْ يقوم مقامه أحَدٌ إلَّا تشاءم النَّاس به، فأحبَبْتُ أنْ يعدِل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أبي بكر).
فوائد: في قوله صلى الله عليه وسلم: (مروا أبا بكر فلْيُصَلِّ بالناس):
ـ قال النووي: "فيه فوائد منها: فضيلة أبي بكر الصديق رضي الله عنه وترجيحه على جميع الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين وتفضيله، وتنبيه على أنه أحق بخلافة رسول الله صلى الله عليه وسلم من غيره. ومنها: أن الإمام إذا عرض له عذر عن حضور الجماعة استخلف من يصلي بهم، وأنه لا يستخلف إلا أفضلهم. ومنها: فضيلة عمر بعد أبي بكر رضي الله عنه، لأن أبا بكر رضي الله عنه لم يَعْدِل إلى غيره".
ـ قال القاضي عياض: "إرسال النبي صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر رضي الله عنه للصلاة، واستخلافه لها وحده دون سواه، أحسن دليل على فضيلة أبي بكر وتقدمه، وتنبيه على أنه أولى بخلافته كما قال الصحابة رضى الله عنهم: "رضينا لدنيانا من رضيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا".
ـ قال النووي: "وفي مراجعة عائشة رضي الله عنها جواز مراجعة ولي الأمر على سبيل العرض والمشاورة، والإشارة بما يظهر أنه مصلحة وتكون تلك المراجعة بعبارة لطيفة".
ـ (إنكنَّ لأنتُنَّ صَواحِب يوسف) أى فى إظهار خلاف ما فى الباطن، قال ابن حجر في الفتح: "ثم إن هذا الخطاب وإن كان بلفظ الجمع فالمراد به عائشة فقط، كما أن صواحب صيغة جمع والمراد زليخا فقط، ووجه المشابهة بينهما في ذلك: أن زليخا استدعت النسوة وأظهرت لهن الإكرام بالضيافة، ومرادها زيادة على ذلك أن ينظرن إلى حُسْنِ يوسف ويعذرْنها في محبته، وأن عائشة أظهرت أن سبب إرادتها صرف الإمامة عن أبيها كونه لا يسمع المأمومين القراءة لبكائه، ومرادها زيادة على ذلك هو أن لا يتشاءم الناس به، وقد صرحت هي فيما بعد بذلك فقالت: لقد راجعته وما حملني على كثرة مراجعته إلا أنه لم يقع في قلبي أن يحب الناس بعده رجلا قام مقامه أبداً".
ـ فهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من تقديم أبي بكر الصديق رضي الله عنه في الصلاة أن ذلك إشارة إلى أنه أحق بالإمامة بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، وكذلك فهم هذا الفهم من جاء بعدهم من أهل العلم، قال أبو بكر المروذي: "قيل لأبي عبد الله ـ أحمد بن حنبل ـ قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يؤم القوم أقرؤهم)، فلما مرض قال: (قدموا أبا بكر يصلي بالناس)، وقد كان في القوم من هو أقرأ من أبي بكر؟! فقال أبو عبد الله: إنما أراد الخلافة".
ـ امتنع النبي صلى الله عليه وسلم عن التصريح بخلافة أبي بكر رضي الله عنه رغم محبته أن يكون خليفته من بعده، لأنه كان لا ينطق عن الهوى، بل بما يُوحَى إليه من ربِّه، ولم يوحَ إليه في ذلك شيء، ، فأرى أصحابه موضع اختياره بتقديمه في الصلاة بالناس، وكرر هذا الأمر مع حضور عمر وعثمان وعلي وعامّة أصحابه رضي الله عنهم، ولم يأمرهم صراحة بأن يكون الخليفة عليهم من بعده أبا بكر رضي الله عنه، وذلك لإعلام الله سبحانه له بأن المسلمين سيختارون أبا بكرٍ لما له من الفضائل العالية التي ورد بها القرآن الكريم والسنة النبوية والتي فاق بها غيره، وقد روى مسلم في صحيحه عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال: (سمعتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول: إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، فإن الله تعالى قد اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا، ولو كنتُ متخذاً من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكرٍ خليلا).
قال ابن تيمية بعد ذكره للخلاف الوارد في خلافة أبي بكر الصديق: هل ثبتت بالنص الجلي (الظاهر)، أو الخفي؟: "والتحقيق أن النبي صلى الله عليه وسلم دلَّ المسلمين على استخلاف أبي بكر وأرشدهم إليه بأمور متعددة من أقواله وأفعاله، وأخبر بخلافته إخبار راضٍ بذلك، حامد له، وعزم على أن يكتب بذلك عهداً، ثم علم أن المسلمين يجتمعون عليه فترك الكتاب اكتفاء بذلك.. فلو كان التعيين مما يشتبه على الأمة لبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم بياناً قاطعاً للعذر، ولكن لما دلهم دلالات متعددة على أن أبا بكر هو المتعين وفهموا ذلك حصل المقصود، ولهذا قال عمر بن الخطاب في خطبته التي خطبها بمحضر من المهاجرين والأنصار: (وليس فيكم من تقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر) رواه البخاري".
وروى ابن سعد في الطبقات الكبرى، وابن عبد البر في التمهيد، وابن عساكر في تاريخ دمشق، أن علياً بن أبي طالب رضي الله عنه قال: "إن نبيكم صلى الله عليه وسلم نبي الرحمة لم يُقْتَل قتلاً، ولم يَمُتْ فجأة، مرض ليالي وأياماً يأتيه بلال فيؤذنه بالصلاة، وهو يرى مكاني فيقول: ائت أبا بكر فليُصَلِّ بالناس، فلما قُبِضَ رسول الله صلى الله عليه وسلم نَظَرتُ في أمري فإذا الصلاة عظم الإسلام وقِوام الدِّين، فرضينا لدنيانا من رضيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا، فَبَايَعْنَا أبا بكر" .
ظل أبو بكر رضي الله عنه يصلي إماماً بالمسلمين، وفي يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول ـ آخر يوم من حياة النبي صلى الله عليه وسلم ـ، وفي صلاة الفجر كشف النبي صلى الله عليه وسلم ستر الحجرة، ينظر إلى المسلمين وهم يصلون، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن المسلمين بينا هم في صلاة الفجر يوم الإثنين ـ وأبو بكر يصلي بهم ـ لم يفجأهم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم كشف ستر حجرة عائشة فنظر إليهم، وهم في صفوف الصلاة، ثم تبسم يضحك، فنكص أبو بكر على عقبيه، ليصل الصف، وظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يخرج إلى الصلاة. فقال أنس: وهمّ المسلمون أن يفتتنوا في صلاتهم، فرِحاً برسول الله صلى الله عليه وسلم، فأشار إليهم بيده رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أتموا صلاتكم، ثم دخل الحجرة وأرخى الستر) رواه البخاري. ثم لم يأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت صلاة أخرى .
لقد كان في وفاة النبي صلى الله عليه وسلم الكثير من المواقف والدروس الجديرة بالوقوف معها للاستفادة منها، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها: (مروا أبا بكرٍ فلْيُصَلِّ بالناس) .