القرآن الكريم كتاب تنزلت آياته على البشرية الحائرة، كما تتنزل قطرات المزن الصافية على الأرض المجدبة القاحلة، فتحيي مواتها، وتعيد شبابها، وتجدد إهابها، وترجعها رياضاً مزهرة وجنات باهرة. ولقد صنع القرآن المجيد بعقول الناس وقلوبهم الأعاجيب، وحول وجهتهم إلى طريق جديد، وأخرجهم من الظلمات إلى النور، وهداهم إلى صراط العزيز الحميد، ووضع أبصارهم وأيديهم على حقيقة عزهم في الدنيا، ومعقد سعادتهم في الآخرة، ولذلك كان القرآن دستور البشرية الذي لا يبلى، ووردها الذي لا ينسى، (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)[الحجر: 9].
والناظر في صفحات القرآن الكريم وآياته يرى أنه قد اهتم بالناحية القصصية اهتماماً كبيراً، ولو أحصينا عدد الآيات التي تضمنت مواقف من قصص المؤمنين وقصص الكافرين، أو إشارات إلى تلك القصص، لوجدناها تستغرق قسطاً كبيراً وجانباً عظيما من القرآن الكريم، وليس ذلك بغريب؛ لأن القصة منذ القدم مهوى القلوب وبغية الأسماع. إنها تستولي على مشاعر الإنسان وإحساسه وخياله، وتسبح به في عوالم شتى من التصورات والأفكار، ويتخذ له منها عظة وعبرة، فإن كانت عن قوم صدقوا فنجحوا، تشبه بهم ونهج نهجهم، وإن كانت عن قوم طغوا فلقوا جزاءهم الوفاق، خاف وحذر، وخشي أن يصيبه ما أصابهم، ومن وراء ذلك التأثر تقف نفوس كثيرة عن الحرام، وتتباعد عن الفساد، وتتمسك بالفضائل ومكارم الأخلاق.
من خصائص القصة في القرآن الكريم أنها تجمع. في آن واحد بين قصص الصالحين وقصص الطالحين، وتبين نتيجة الأولين وعاقبة الآخرين، فهي حينما تقص علينا مثلا قصة رسول من الرسل أو نبي من الأنبياء، أو داع من الدعاة، وكيف أتى العنت والإرهاق والمشقة في بادئ الأمر، ثم جاء أخيراً نصر الله فأيده ورعاه، وأعزه وهداه، تسرع فتقابل هذه الصورة بصورة الذين شقوا، والذين غرتهم الحياة الدنيا وغرهم بالله الغرور، فطغوا وبغوا، وأخذتهم العزة بالإثم، ثم لم يكن إلا زمن قليل، وجاءهم بعده عقاب الله الذي لا يرد، فكان عاقبة أمرهم خسارا وبواراً.
واعتادت القصة القرآنية هذه المقابلة وتلك المقارنة، لتجعل القارئ دائماً بين عاملي التحذير والتبشير، والوعد والوعيد، والخوف والرجاء، وبذلك تعتدل حاله وتتوسط أموره، فلا يكون منه إفراط أو تفريط، هنا أو هناك!!.
ومن خصائص القصة في القرآن الكريم أنها في الغالب لا تذكر مرة واحدة، بل تكرر وتعاد، وكلما كررت جملت، وكلما أعيدت حلت، وما أحلى مذاق الشهد وهو مكرر كما يقول القائل .. وبعض الذين أكل الجهل والحقد والغباء قلوبهم وعقولهم يفترون على الله الكذب ويقولون: ما كان أغنى القرآن عن هذا التكرار! .. وذلك ضلال في التفكير وإثم كبير، فإن الأمر المهم الذي تلقيه إلى تلميذك أو تابعك يحتاج منك دائما إلى أن تعيده وتكرره، حتى يرسخ ويثبت؛ والقصص القرآنية قد أعيدت وكررت لتبلغ غايتها من الثبات في عقول قارئيها وسامعيها، وليكون تكرارها تذكاراً ينبه من غفلة، ويوقظ من سنة، ويجدد العهد من حين لحين بشيء مضى وهو من الجلالة بمكان؛ وليكون تكرارها عاملا قوياً من عوامل التأثير في نفوس السامعين، فقد تلقى إليك القصة أولا وأنت مشغول أو مضطرب أولاهٍ غير مستعد لتقبلها، فإذا أعيدت عليك بأسلوب آخر وفي مكان آخر وفي وقت آخر، ثبتت واستقرت، فكأنها تتلمس الأسباب والأوقات الملائمة والفرص الممكنة لكي تدخل إليك وتستحوذ عليك وتؤثر فيك!!.
وقد قرن هذا التكرار بتلوين في العبارة، وتجديد في الأسلوب، وتغيير في طريقة العرض، فتارة تعرض القصة طويلة، وتارة متوسطة، وتارة قصيرة وجيزة مختصرة، وتلك أيضاً خصيصة أخرى من خصائص القرآن الكريم، وتلك الخصيصة تنطوي على حكمة بالغة يستطيع أن يدركها أولو الألباب، وهي أن الحق تبارك وتعالى قد أراد بذلك التلوين والتجديد والتغيير أن يضع أمام كل طبقة من الناس، وأمام كل طائفة من البشر ما يلائمها من أنماط القول وطرق الكلام، فهذا صنف لا يرضيه إلا أن تفيض له وتسهب معه، وهذا صنف متوسط يحتاج إلى القول الوسط، وهذا صنف خاص تكفيه الإشارة عن العبارة، ويغنيه التلميح عن التصريح؛ والواعظ حينما يذهب إلى طائفة أمية عامية، خالية الذهن عن قصة موسى عليه السلام مثلا، سيرى نفسه مضطراً إلى أن يسرد عليهم هذه القصة مفصلة موضحة؛ وأن يذكر لهم مواقفها بإفاضة وإسهاب، ويستعين في ذلك بما ورد من قصة موسى بإسهاب في البقرة، والأعراف، وطه، والقصص؛ ولكنه عندما يقف ليعظ قوماً مثقفين، سيكتفي معهم في قصة موسى بمثل قول الحق تبارك وتعالى: (هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى * اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى * فَأَرَاهُ الْآَيَةَ الْكُبْرَى * فَكَذَّبَ وَعَصَى * ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى * فَحَشَرَ فَنَادَى * فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى * فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآَخِرَةِ وَالْأُولَى * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى)[النازعات: 26،15]!!.
ومن خصائص القصة في القرآن الكريم أن القصة لا تذكر في الغالب بجميع مواقفها في موضع واحد، أو سورة واحدة من سور القرآن، بل يذكر بعضها في سورة، وبعضها الآخر في سورة أخرى، وهذا التقسيم والتوزيع مقصود لحكمة جليلة، لأن الله تعالى يريد أن يمزج القرآن بعضه ببعض، ويريد أن يجعله كتلة واحدة، لا ينفصل جزء منها عن جزء، فهو كالحلقة المفرغة لا يدرى أين طرفاها؛ ولو قسم القرآن وجزئ فاستقل كل موضوع بناحية؛ لانصرف كل إنساناً يطلب شيئاً خاصاً إلى ذلك الشيء وحده، فقضى عنه بغيته، وانصرف عن الباقي، ولكن الحق تبارك وتعالى لا يريد هذا؛ بل يريد أن يشغل المسلمين بكل القرآن وجميع موضوعاته وسائر أجزائه، ولذلك صاغه هذه الصياغة الربانية، وجعله مثاني، كل كلمة منه تنثني وتنعطف إلى جارتها فتأخذ بعنقها وتلتئم معها، فإذا جاء إنسان يريد قصة آدم وحدها، وطلبها من القرآن الكريم، فسيرى نفسه مضطراً إلى أن يقرأ سورة هنا وسورة هناك، وفي خلال بحثه عن قصة آدم وهو غرضه الأساسي سيصادفه في طريقه كثير من الجواهر والآلئ والفرائد التي تتصل بالعبادات أو المعاملات أو الأخلاق أو العقائد، فيكسب المرء بذلك كثيراً من الفوائد والمنافع عن غير قصد منه أولا، والقرآن في هذا شبيه بالمنجم الكريم – ولله المثل الأعلى – وهذا المنجم يحوي كل الجواهر والأحجار الكريمة، ولكنها ممزوجة غير مفصولة، فمن أراد الوصول إلى الذهب مثلا صادف في طريقه اللؤلؤ والمرجان والياقوت وغيره من كرائم الجواهر.
ومن خصائص القصة القرآنية أنها حقيقة واقعية، لم تعتمد على خيال، ولم تجنح إلى تمثيل، ولم تستعن باختلاق، ومن أصدق من الله قيلا.
ولا ينكر إنسان ما للخيال من روعة وجاذبية، ولكن الخيال في ميدان التربية والتعليم لا يجدي جدوى الحق والواقع، وأنت قد تقص على الطفل أو التلميذ قصة مؤثرة بحوادثها ونتائجها؛ فيتأثر بها كل التأثر، ولكنه حينما يعلم أنها بنيت الخيال يقل تأثره، ويتعود على استماع أمثالها فيما بعد دون استجابة لهواتفها ودواعيها.
وإذا كان الضلال في التفكير، والهوى في العقيدة، قد دفع ببعض الأغرار أو الأشرار إلى أن يزعموا أن قصص القرآن فن وتمثيل ... إذا كان هذا قد حدث فإنه لم يترك له أثرا؛ ولم يقم العقلاء له ميزانا؛ وذهب الزبد جفاء وبقي ما ينفع الناس ثابتاً ثبات الأبد راسخاً رسوخ الجبل. وستظل قصص القرآن خير تاريخ يصور الماضي في صدق وأمانة وإحكام، وستظل آياته مصدراً للهداية والتقويم وستكشف الأيام بعد الأيام عما في القرآن من كنوز ونفائس مصداقا لقول الله تبارك وتعالى: ( سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) [فصلت: 53]؟!.