في عقول كثير من الناس أفكار لأعمال خيرية وإصلاحية كثيرة، لكن الذي يرى النور منها قليل جداً، والأقل من القليل هو ذاك الذي يحقق نجاحاً ملحوظاً.
كلما نشبت أزمة اكتشف كثير من المفكرين والدعاة أن لدى الأمة قصوراً أو انحباساً أو مشكلة في جانب من جوانب حياتها، ويبدأ كل واحد منهم بالتعامل مع ذلك على طريقته الخاصة: واحد يلقي محاضرة، وثان يصدر فتوى، وثالث يؤلف كتاباً، ورابع يشكل لجنة وهكذا... أصحاب الفتاوى والكتب والخطب يشعرون أن مهمتهم انتهت، وفعلوا ما عليهم أن يفعلوه.
ويبقى أولئك الذين يشكلون اللجان، والمجموعات للبحث والتنظير ورسم الخطط.. إنهم كثيراً ما يشعرون أن مهمتهم كبيرة، وأن الرد على تلك الأزمة أو معالجة ذلك القصور قد يتطلب ما هو أكثر من فتوى أو خطبة، ويمضي القوم في اجتماعاتهم الأسبوعية أو الشهرية أو الفصلية، ويستفرغون جهدهم وطاقتهم في إجراء الدراسات المطلوبة، وكلما فرغوا من دراسة جزئية، نسل البحث جزئية أخرى، وفي كثير من الأحيان يُنسى الهدف الأساس الذي اجتمعوا من أجله، وتجدّ لديهم أهداف صغيرة يبحثون عن وسائل وأطر لبلوغها وهكذا.. ومع مرور الأيام تأتي الصوارف والشواغل، وتفتر العزائم، ويسود نوع من الشعور بانسداد الآفات وبعدم وجود الأهلية لمعالجة ما تصدوا لمعالجته. وربما جاءت أزمة جديدة، أنستهم القديمة، ودفعتهم للانشغال بها!
كثير من أولئك المجتمعين يبحثون في مسائل خارج اختصاصهم؛ ولذلك فإنهم يبذلون جهداً هائلاً ووقتاً طويلاً حتى يسبروا أغوار الأزمة أو القضية التي تصدوا لها، وحتى يوجدوا قاعدة للفهم المشترك بينهم، وكثيرون منهم يشعرون بأنهم يحملون الكثير من الأعباء، وأنه ليس لديهم أي طاقة لتحمل أعباء جديدة؛ ولذا فإنهم يفيضون ويطوّلون في المناقشات النظرية، وفي نفس كل واحد منهم توجّس خفي من أن ينتهي البحث إلى تكليفه بشيء عملي؛ ولذا فإن تلك المناقشات تندفع بالغريزة بعيداً عن ميادين العمل، وإذا أفْضَت إلى شيء عملي؛ فينبغي أن يقوم به أشخاص من غير المجتمعين، فالمجتمعون خُلقوا للتنظير، وعلى أشخاص أقل سوية أن يتولوا التنفيذ! ثم لا يجدون أولئك المنفذين، وتنتهي العاصفة بمجموعة من الأمنيات والمقترحات التي ما تفتأ أن تسقط بالتقادم.
قد يكون من المفيد أن نوضح أن أهم ما يُطلب في هذه المبادرات الخيّرة، هو أن يعتقد في كل مجموعة أو لجنة شخص واحد على الأقل أن الوصول إلى شيء عملي يُعد أولوية مطلقة بالنسبة إليه، وكأنه يقول: "أنا صاحب هذه الخيمة والمسؤول عنها وحاميها"، ومن أراد التعاون معي فأنا موجود، وإن لم أجد فسأتابع العمل وحدي.
إنه بذلك يجعل من نفسه محوراً يجذب إليه كل أولئك الذين يشاركونه هموم ما تصدى إليه.
أولوية واحدة تُخدم بشكل جيد خير من أولويات كثيرة لا يجد صاحبها أي طاقة كافية لخدمة أي منها على الوجه الصحيح.
والله الموفق.