حاول المنافقون الطعن في عِرْض النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك بالافتراء على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، بما عُرِفَ في السيرة النبوية بـ"حادثة الإفك"، والذي كان القصد منه النيل من النبي صلى الله عليه وسلم ومن دينه ودعوته . وقد أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما هذه الحادثة، وملخصها كما وردت في كتب الحديث والسيرة النبوية: أنه في السنة الخامسة للهجرة النبوية، وفي شهر شعبان، أجمع النبيُّ صلى الله عليه وسلم على قتال بني المصطلق (غزوة المريسيع)، فأقرع بين نسائه، فخرج السهم على عائشة رضي الله عنها، فكانت رفيقته صلى الله عليه وسلم في هذه الغزوة. قال ابن رجب في شرحه على البخاري: "وهذا السفر الذي سقطت فيه قلادة عائشة رضي الله عنها أو عقدها كان في غزوة المريسيع إلى بني المصطلق من خزاعة سنة ست، وقيل: سنة خمس، وهو الذي ذكره ابن سعد عن جماعة من العلماء".
لمّا فرغ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من هذه الغزوة (المريسيع) قفل راجعاً إلى المدينة المنورة، وفي طريق عودته نزلت عائشة رضي الله عنها من هوْدَجِها لبعض شأنها، فلما عادت افتقدت عقداً لها، فرجعت تبحث عنه، وحمل الرجال الهودج ووضعوه على البعير الخاص بها وهم يحسبون أنها فيه، وحين عادت رضي الله عنها لم تجد الرَكْب، فمكثت مكانها تنتظر أن يعودوا إليها بعد أن يكتشفوا غيابها، وصادف أن مرَّ بها أحد أفاضل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهو صفوان بن المعطل السلمي رضي الله عنه، فحملها على بعيره، وأوصلها إلى المدينة المنورة .
استغل المنافقون وعلى رأسهم زعيمهم عبد الله بن أبي بن سلول هذا الموقف والحادث، ونسجوا حوله الإشاعات الكاذبة الباطلة، ونشروه في المدينة كلها، فاهتزت القلوبُ وامتُحِنت، وعَصَم الله أناساً بالتقوى، فأحسنوا الظن وأمسكوا ألسنتهم،، ووقع آخرون في الفتنة وخاضوا مع من خاض، وانقطع الوحي شهراً، عانى النبي صلى الله عليه وسلم خلاله كثيراً، حيث طُعِن في عرضه وأوذي في زوجته، ثم نزل الوحي من الله عز وجل مُبَرِّئاً عائشة رضي الله عنها، وذلك في قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ * لَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ * لَوْلاَ جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ * وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ * وَلَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ * يَعِظُكُمُ اللهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ * وَيُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الآَيَاتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ * وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}(النور: 11-20).
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها حين نزلت براءتها في هذه الآيات: (أبشري يا عائشة فقد أنزل الله براءتك) رواه البخاري.
فالمبرأة من فوق سبع سموات هي أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنها، ومن ثم فقد اتفقت الأمة الإسلامية على كفر من اتهم عائشة رضي الله عنها بما افتراه بها المنافقون بعد نزول آيات براءتها في القرآن الكريم .
قال القاضي أبو يعلى الحنبلي: "من قذفَ عائشة رضي الله عنها بما برَّأها الله منه كفر بلا خلاف، وقد حكَى الإجماع على هذا غيرُ واحد، وصرّح غير واحد من الأئمة بهذا الحُكم".
وقال ابن قدامة: "ومن السُنَّة الترَضِّي عن أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين المطهرات المبرآت من كل سوء، أفضلهن خديجة بنت خويلد وعائشة الصديقة بنت الصديق التي برأها الله في كتابه، زوج النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة، فمن قذفها بما برأها الله منه فقد كفر بالله العظيم".
وقال النووي: "براءة عائشة رضي الله عنها من الإفك هي براءة قطعية بنص القرآن العزيز، فلو تشكك فيها إنسان والعياذ بالله صار كافراً مرتداً بإجماع المسلمين".
وقال ابن القيم: "واتفقت الأمة على كفر قاذفها".
وقال ابن كثير: "أجمع العلماء ـ رحمهم الله ـ قاطبة على أن من سَبَّها بعد هذا ورماها به بعد هذا الذي ذكر في هذه الآية فإنه كافر لأنه معاند للقرآن". وقال ابن العربي: "إن أهل الإفك رمُوا عائشةَ المطهَّرة بالفاحشة، فبرَّأها الله تعالى، فكلُّ من سبَّها بما برأها الله منه مكذِّب لله، ومن كذَّب الله فهو كافر".
وحادثة الإفك مع ما فيها من فتنة وآلام شديدة، تركت وراءها العديد من الدروس والفوائد، التي ينبغي الاستفادة منها في واقعنا كأفراد ومجتمعات، ومن هذه الدروس الهامة :
التثبت من الأخبار، وإمساك اللسان عن الخوض في الأعراض :
من الإثم المبين: ترك التثبُّت من الأخبار، وإشاعة أحاديث لا سند لها ولا برهان، ربما تؤدي إلى سوء الظن بالمسلمين، والخوض والوقوع في أعراضهم، وتحمل الناس على الشحناء والبغضاء فيما بينهم، ولذلك قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}(الحجرات: 6)، قال الشوكاني في فتح القدير: "قرأ الجمهور {فَتَبَيَّنُوا} من التبين، وهو التأمل، وقرأ حمزة والكسائي: {فتَثبَّتوا}، والمراد من التبيّن التعرّف والتفحّص، ومن التثبّت: الأناة وعدم العجلة، والتبصر في الأمر الواقع والخبر الوارد حتى يتضح ويظهر" .
إن حماية الأعراض من الأمور التي صانها وحماها الإسلام، لأن العِرض إحدى الضرورات الخمس لحياة الإنسان، وهي: الدين، والعقل، والنفس، والمال، والعِرْض. ومن الآفات الخطيرة والأدواء العُظمى التي ينبغي الحذر منها: انتشار الإشاعات الكاذبة، وكثرة: قِيل وقال، لأن ذلك يُوغِر الصدور، ويُفسِد العلاقة بين أفراد المجتمع، ويجُرُّ من الويلات ما لا يُحصَى، ومن الشرور ما لا يُستقصَى، وأعراض المسلمين حفرةٌ من حُفر النار، ولذا جاء التحذير والنهي النبوي ـ عامة ـ عن قيل وقال، وإطلاق اللسان، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله كرِه لكم قيل وقال) رواه البخاري، قال النووي: "وأما:(قيل وقال) فهو الخوض في أخبار الناس وحكايات مالا يعني من أحوالهم وتصرفاتهم" . وقال صلى الله عليه وسلم لعقبة بن عامر رضي الله عنه: (أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك) رواه الترمذي وصححه الألباني وقال: "(أمسك عليك لسانك) يعني: لا تتكلم إلا بما يفيدك وبما يعنيك، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة في الحض على الإعراض عن الكلام إلا فيما كان فيه خير، فقد جاء في صحيح البخاري ومسلم من حديث أبي شريح الخزاعي وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت)".
ومن ثم فالواجب على المسلم إذا سمع خبراً أن يتثبت من صحته قبل أن يتكلم به بين الناس ـ إن كان في نقله والحديث به مصلحة شرعية ـ، وهذا درس من الدروس الهامة من حادثة الإفك، ولذلك قال الله تعالى في الذين تحدثوا ونقلوا الإفك على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: {لَوْلاَ جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ}(النور: 13)، قال السعدي: "ولم يقل "فأولئك هم الكاذبون" وهذا كله، من تعظيم حرمة عرض المسلم، بحيث لا يجوز الإقدام على رميه"، وقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ}(النور 23: 25)، قال ابن كثير: "هذا وعيد من الله تعالى للذين يرمون المحصنات الغافلات ـ خرج مخرج الغالب ـ المؤمنات. فأمهات المؤمنين أوْلى بالدخول في هذا من كل مُحْصنة، ولا سيما التي كانت سبب النزول، وهي عائشة بنت الصديق رضي الله عنهما".