بدأت وفود القبائل من العرب تأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم قبل فتح مكة، إلا أن الوفادة في صورة متوالية مستمرة وقعت بعد عام الفتح في العام التاسع من الهجرة النبوية، ولذلك سميت السنة التاسعة من الهجرة بعام الوفود. وقد اهتم النبي صلى الله عليه وسلم بتلك الوفود وحرص على تعليمها أمور دينها، وكان يبعث مع بعضهم من يعلمهم أحكام دينهم .. ومن ضمن هذه الوفود التي أتت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وفد قبيلة عبد القيس، من الأحساء وكانت تسمى البحرين. قال ابن حجر: "وهي قبيلة كبيرة يسكنون البحرين (ليست البحرين الموجودة الآن)، يُنسبون إلى عبد القيس"، وكانت لهذه القبيلة وفادتان: الأولى في العام الخامس من الهجرة النبوية، والثانية في العام التاسع بعد فتح مكة.
الوفادة الأولى :
كان رجل من قبيلة عبد القيس يقال له: منقذ بن حيان، يأتي إلى المدينة المنورة للتجارة قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إليها، فلما جاء بتجارته بعد مقدم النبي صلى الله عليه وسلم، وعلم بالإسلام، أسلم وذهب بكتابٍ من النبي صلى الله عليه وسلم إلى قومه فأسلموا، فتوافدوا إليه في شهر حرام في ثلاثة أو أربعة عشر رجلا، وفيها سألوا عن الإيمان وعن الأشربة، وكان فيهم عبد الله بن عوف الأشج الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة (العقل، والتثبت وترك العجلة)) رواه مسلم.
عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال: (قَدِمَ وفدُ عبدِ القيس على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: مرحباً بالقومِ، غير خزايا ولا الندامى. فقالوا: يا رسول الله إن بيننا وبينك المشركين من مُضَرَ، وإنَّا لا نَصِلُ إليك إلا في أشهر الحرم (ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب)، حدثنا بجُمَلٍ من الأمرِ: إن عملنا به دخلنا الجنة، وندعو به مَن وراءنا. قال: آمرُكم بأربعٍ وأنهاكم عن أربعٍ، الإيمان بالله، هل تدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة, وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تُعطوا من المغانِمِ الخُمُس. وأنهاكم عن أربعٍ: ما انتُبِذَ في الدُّبَّاءِ والنَّقيرِ والحنتَمِ والمُزَفَّت) رواه البخاري.
الدُّبَّاءِ، والنقير، والحنتم، والمُزَفَّت: هذه الأسماء الأربعة لأنواع من الأوعية والآنية التي كانوا يضعون فيها النبيذ، وقد نهاهم عن الانتباذ فيها لأنها كثيفة تُصير النبيذ مسكرا, ولا يعلم صاحبها. والدباء: القرع اليابس يفرغ ويجعل إناء، والحنتم: آنية كبيرة مدهونة خضر كانت تحمل فيها الخمر إلى المدينة، والنقير: جذع النخل ينقرونه ثم يضعون فيه الخمر، والمزفت: الوعاء المطلي بالزفت.
وفي الحوار الذي دار بين النبي صلى الله عليه وسلم مع وفد عبد القيس الكثير من الفوائد، منها:
- استحباب الترحيب بالزوار والقادمين، وحسن مقابلتهم، إيناساً لهم وتأليفاً لقلوبهم، لقوله صلى الله عليه وسلم لهم: (مرحباً بالقومِ، غير خزايا ولا الندامى).
ـ مراعاة الحكمة والإيجاز في الدعوة إلى الله، مع مراعاة مقتضى الحال، والاقتصار على المسائل الكبار عند السؤال، والعناية بحال المدعو فيما يؤمر به ويُنْهَى عنه، إذ أمرهم صلى الله عليه وسلم بالإيمان بالله عز وجل، وشرح لهم معانيه وأركانه باختصار، كما نهاهم صلى الله عليه وسلم عن منكرات كانت فاشية بينهم، فقال لهم: (آمرُكم بأربعٍ وأنهاكم عن أربعٍ، الإيمان بالله، هل تدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة, وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تُعطوا من المغانِمِ الخُمُس. وأنهاكم عن أربعٍ: ما انتُبِذَ في الدُّبَّاءِ والنَّقيرِ والحنتَمِ والمُزَفَّت).
ـ الثناء على المدعوين بخصال الخير الموجودة لديهم، لقوله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عوف الأشج: (إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة). وكذلك جواز الثناء على الإنسان ومدحه في وجهه إذا لم يخف عليه الفتنة ويختلف ذلك بحسب الأحوال والأشخاص.
- لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم الحج على أنه من الإيمان، لأنه لم يكن قد فُرِض عندما وفدوا إليه.
- وجوب أداء الخمس من الغنيمة، وأنه من الإيمان، لقوله صلى الله عليه وسلم لهم آمرا: (وأن تُعطوا من المغانِمِ الخُمُس)، ومعنى ذلك: إعطاء خُمس الغنائم التي يحصل عليها المسلمون نتيجة الحرب مع الكفار، ودفعها للأصناف التي وردت في قول الله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي القُرْبَى وَاليَتَامَى وَالمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آَمَنْتُمْ بِاللهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الفُرْقَانِ يَوْمَ التَقَى الجَمْعَانِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}(الأنفال:41).
- تحريم الخمر وكل شراب مسكر.
الوفادة الثانية :
بعد أن فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة في العام الثامن للهجرة النبوية، أقبلت الوفود إليه من كل مكان معلنة إسلامها، حتى زاد عدد تلك الوفود على الستين وفدا، وكان ضمن تلك الوفود: وفد عبد القيس، وكان عددهم فيها أربعين رجلا، وكان فيهم الجارود بن العلاء العبدي، وكان نصرانياً فأسلم وحسن إسلامه.
قال ابن حجر في فتح الباري: "والذي تبين لنا أنه كان لعبد القيس وفادتان: إحداهما قبل الفتح، ولهذا قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: "بيننا وبينك كفار مُضر"، وكان ذلك قديماً، إما في سنة خمس أو قبلها، وكانت قريتهم بالبحرين أول قرية أقيمت فيها الجمعة بعد المدينة، كما ثبت في آخر حديث في الباب، وكان عدد الوفد الأول ثلاثة عشر رجلاً، وفيها سألوا عن الإيمان وعن الأشربة، وكان فيهم الأشج... ثانيتهما: كانت في سنة الوفود، وكان عددهم حينئذ أربعين رجلاً، كما في حديث أبي حيوة الصنابحي الذي أخرجه ابن منده، وكان فيهم الجارود العبدي، وقد ذكر ابن اسحاق قصته وأنه كان نصرانياً فأسلم وحسن إسلامه. ويؤيد التعدد ما أخرجه ابن حبان من وجه آخر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: (ما لي أرى ألوانكم تغيرت!) ففيه إشعار بأنه كان رآهم قبل التغير".
لقد تركت لنا تلك الوفود عامة، ووفد عبد القيس خاصة، منهجاً نبويَّا كريماً في طريقة تعامله صلى الله عليه وسلم معهم، وأظهرت لنا مدى اهتمامه بهم ودعوتهم للإسلام، وحرصه على تعليمهم أمور دينهم، وحكمته في تعامله ودعوته لهم مع اختلاف معتقداتهم وأفكارهم، فرجعت تلك الوفود دعاة هداة، يعلمون أقوامهم مما تعلموا فأسلموا، وبذلك انتشر الإسلام في كافة أنحاء الجزيرة العربية ..