في يوم الجمعة السابع عشر من شهر رمضان من العام الثاني للهجرة النبوية الشريفة كانت غزوة بدر، التي كانت فرقانًا بين الحق والباطل، والتي بدأت أحداثها وانتهت بتدبير الله عز وجل ومدده ونصره المبين للمسلمين، الذين استشهد منهم أربعة عشر رجلا، أما المشركون فقد لحقتهم خسائر فادحة، وقتل منهم سبعون وأُسِر سبعون، وقد قال الله تعالى عن غزوة بدر وانتصار المسلمين فيها: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}(الأنفال:41)، وقال تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ}(آل عمران:123). قال ابن كثير: "قوله: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} أي: يوم بدر، وكان في يوم جمعة وافق السابع عشر من رمضان، من سنة اثنتين من الهجرة، وهو يوم الفرقان الذي أعز الله فيه الإسلام وأهله، ودمغ فيه الشرك وخرب محله".
قريش تتلقى نبأ الهزيمة :
فرَّ المشركون الذين لم يُقْتلوا في بدر، واتجهوا نحو مكة مذعورين، لا يدرون كيف يدخلونها خجلا. قال ابن إسحاق: وكان أول من قدم بمصاب قريش الحُيْسمان بن عبد الله الخزاعي، فقالوا: ما وراءك؟ قال: قُتِل عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة، وأبو الحكم بن هشام، وأمية بن خلف في رجال من الزعماء سماهم. فلما أخذ يَعد أشراف قريش قال صفوان بن أمية وهو قاعد في الحِجْر: والله إن يعقل هذا، فاسألوه عني، قالوا: ما فعل صفوان بن أمية؟ قال: ها هو ذا جالس في الحجر، وقد والله رأيت أباه وأخاه حين قُتِلا.
وقد تلقت كذلك قريش نبأ الهزيمة الفادحة لجيشها في غزوة بدر من أبي سفيان زعيمها وقائدها. ويصف أبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك فيقول: (كنت غلاماً للعباس بن عبد المطلب، وكنت قد أسلمْتُ، وأسلمَتْ أم الفضل، وأسلم العباس، وكان يكتم إسلامه مخافة قومه، وكان أبو لهب تخلف عن بدر، وبعث مكانه العاص بن هشام، وكان له عليه دَيْن، فقال له: اكفني من هذا الغزو، وأترك لك ما عليك، ففعل. فلما جاء الخبر، وكبتَ الله أبا لهب، وكنتُ رجلاً ضعيفاً أنحتُ هذه الأقداح في حجرة زمزم، فوالله إني لجالس أنحت أقداحي في الحجرة، وعندي أم الفضل، إذْ أقبل الفاسق أبو لهبٍ يجر رجليه، أراه قال: حتى جلس عند طنب (طرف) الحجرة، فكان ظهره إلى ظهري، فقال الناس: هذا أبو سفيان بن الحارث، فقال أبو لهب: هلمَّ إلي يابن أخي، فجاء أبو سفيان حتى جلس عنده، فجاء الناس فقاموا عليهما، فقال: يا ابن أخي، كيف كان أمر الناس؟ قال: لا شيء، والله ما هو إلا أن لقيناهم، فمنحناهم أكتافنا يقتلوننا كيف شاؤوا، ويأسروننا كيف شاؤوا، وايم الله ما لمتُ الناس، قال: ولِمَ؟ فقال: رأيت رجالاً بيضاً على خيل بُلق، لا والله ما تُليق (ما تبقي) شيئاً، ولا يقوم لها شيء، قال: فرفعت طنب الحجرة، فقلت: تلك والله الملائكة، فرفع أبو لهب يده فلطم وجهي، وثاورته (وثبْتُ إليه) فاحتملني فضرب بي الأرض حتى نزل عليّ، وقامت أم الفضل فاحتجزت، وأخذت عموداً من عمد الحجرة فضربته به، ففلقت في رأسه شجة منكرة، وقالت: أي عدو الله، استضعفتَه أنْ رأيت سيده غائباً عنه! فقام ذليلاً، فوالله ما عاش إلا سبع ليال حتى ضربه الله بالعدسة (بثرة تخرج في البدن كالطاعون، وقلما يسلم صاحبها) فقَتَلَتْه، فتركه ابناه يومين أو ثلاثة ما يدفنانه، حتى أنتن، فقال رجل من قريش لابنيه: ألا تستحييان أن أباكما قد أنتن في بيته؟ فقالا: إنا نخشى هذه القرحة، وكانت قريش تتقي العدسة كما تتقي الطاعون، فقال رجل: انطلقا فأنا معكما، قال: فوالله ما غسَّلاه إلا قذفاً بالماء من بعيد، ثم احتملوه، فقذفوه في أعلى مكة إلى جدار، وقذفوا عليه الحجارة) رواه الطبراني والبزار وغيرهما، والبيهقي في الدلائل، وابن هشام في السيرة النبوية، وابن كثير في البداية والنهاية، وذكره الطبري في تفسيره سورة آل عمران.
هكذا تلقت مكة أنباء الهزيمة الساحقة في بدر، وقد أثر ذلك فيهم أثراً سيئاً، وملأ قلوبهم وبيوتهم همّاً وغماً وحزنا، ومنعوا النياحة على القتلى، لئلا يشمت بهم المسلمون، ولعل هذه الحادثة ـ التي رواها ابن هشام في السيرة النبوية ـ تظهر الوضع النفسي المحطم الذي آلت إليه قريش. قال: "ناحت قريش على قتلاهم شهراً، ثم قالوا: لا تفعلوا فيبلغ محمداً وأصحابه فيشمتوا بكم، ولا تبعثوا فى أسراكم حتى تستأنوا بهم (تؤخروا فداءهم)، لا يتأرب (يشتد) عليكم محمد وأصحابه فى الفداء. قال: وكان الأسود بن المطلب قد أصيب له ثلاثة من ولده زمعة وعقيل ابناه، والحارث بن زمعة وهو ابن ابنه، وكان يحب أن يبكى عليهم، فسمع نائحة من الليل فقال لغلام له ـ وقد ذهب بصره ـ: انظر هل أُحِلَّ النحب، وهل بكت قريش على قتلاها؟ لعلي أبكي على أبي حكيمة ـ يعنى زمعة ـ فإن جوفى قد احترق، فلما رجع إليه الغلام قال: إنما هى امرأة تبكى على بعير لها أضلته، قال: فذاك حين يقول الأسود:
أتبكي أن يضل لها بعير ويمنعها من النوم السهود
فلا تبكي على بكر ولكن على بدر تقاصرت الجدود
على بدر سراة بني هصيص ومخزوم ورهط أبي الوليد
وبْكي إن بكيت على عقيل وبْكي حارثا أسد الأسود
وبكيهم ولا تسمي جميعا وما لأبي حكيمة من نديد
ألا قد ساد بعدهم رجال ولولا يوم بدر لم يسودوا
من آثار غزوة بدر على المشركين واليهود والمسلمين :
كان لغزوة بدر آثارها السلبية الكبيرة على المشركين في مكة، فقد فُجِعوا بهزيمتهم، ولقي سبعون ممنهم مصرعهم، وعلى رأسهم أبو جهل، وأمية بن خلف، وحنظلة بن أبي سفيان، وعبيدة والعاص ابنا سعيد بن العاص، وعقبة بن أبي معيط, وغيرهم من القادة والزعماء، كما أُسِرَ سبعون منهم، وفر الباقون إلى مكة تاركين وراءهم الكثير من الأموال والإبل والخيل، فما من بيت من بيوت مكة إلا وفيه حزن وبكاء على قتل عزيز أو قريب، أو أسْر أسِير، ومن ثم اهتزت نفوسهم، وضعفت مكانتهم وهيبتهم بين العرب.
كما كان لغزوة بدر آثارها السيئة على اليهود في المدينة المنورة، فقد ألقى انتصار المسلمين في بدر على اليهود حزناً وغمّا، فقد اغتاظوا لذلك غيظاً شديدا، وأفزعهم وأحزنهم أن ينتصر المسلمون في بدر هذا الانتصار العظيم مع قلة عددهم وعدتهم، وأن يُعز الإسلام ويظهر، فعقدوا العزم على نقض العهد الذي عاهدوا عليه النبي صلى الله عليه وسلم عندما قدم المدينة المنورة، وأخذوا بإظهار عداوتهم التي كانت كامنة في نفوسهم، وراحوا يكيدون للإسلام ولرسوله بمؤامراتهم ومكائدهم التي اشتهروا بها, فأخذ يهود بني قينقاع يسخرون من المسلمين، ويقللون من شأن انتصارهم في بدر، وقام شاعرهم كعب بن الأشرف بحملة عدائية ضد المسلمين، وأخذ يبكى بشعره قتلى بدر من المشركين، ويحرض قريشاً على الأخذ بثأرها، ثم تمادوا في شرهم فاعتدوا على امرأة مسلمة، ونقضوا العهد الذي بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم، وما كان النبي صلى الله عليه وسلم ليخفى عليه شيء من ذلك، فقد كان يراقبهم عن حذر ويقظة، فحاصرهم خمس عشرة ليلة، ثم فك الحصار عنهم وأجلاهم عن المدينة، فارتحلوا مخذولين إلى حدود بلاد الشام، ثم أتبعهم النبي صلى الله عليه وسلم ـ بعد ذلك ـ بإجلاء من بقي من قبائلهم عن المدينة المنورة .
أما المسلمون فقد كان لانتصارهم في غزوة بدر المباركة آثاره الإيجابية عليهم، فقد كان بداية الميلاد الحقيقي للدولة الإسلامية الجديدة بقيادة النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة، والتي بعدها وعلى أكتافها قامت الأمة الإسلامية، ولذلك فليس من قبيل المبالغة أن يقال: إن آثار غزوة بدر وانتصار المسلمين فيها بقيادة النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن قاصرة على المسلمين والمشركين واليهود في مكة والمدينة المنورة، بل على الجزيرة العربية كلها خاصة، وعلى العالم كله بصفة عامة.. ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم عن فضل الصحابة الذين شهدوا بدرا: (لعل اللهَ اطلع إلى أهل بدرٍ فقال: اعملوا ما شئتُم، فقد وجبتْ لكم الجنةُ، أو فقد غفرتُ لكم) رواه البخاري. قال ابن القيم: "فسُعُود الأيام ونحوسها: إنما هو لسعود الأعمال وموافقتها لمرضاة الرب، ونحوس الأعمال إنما هو بمخالفتها لما جاءت به الرسل، واليوم الواحد يكون يوم سعد لطائفة، ونحس لطائفة كما كان يوم بدر، يوم سعد للمؤمنين، ويوم نحس على الكافرين".