فضَّل الله تعالى بعض الأنبياء على بعض، ورفع بعضهم درجات، ففضل أولي العزم على باقي الرسل، وهم خمسة: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ}(الإسراء:55)، وقال تعالى:{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ}(البقرة:253).
وإذا كان الله تعالى قد فضل وخصَّ بعض الأنبياء بفضائل وخصوصيات، فلا عجب أن يخص محمداً صلى الله عليه وسلم بإرساله للخَلق كافة ـ إنسهم وجنهم ـ، قال الله تعالي: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الجِنِّ يَسْتَمِعُونَ القُرْآَنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللهِ وَآَمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}(الأحقاف 32:29)، وقال سبحانه: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآَمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا}(الجنّ 2:1).
قال ابن كثير: "يقول تعالى آمراً رسوله صلى الله عليه وسلم أن يخبر قومه: أن الجن استمعوا القرآن فآمنوا به وصدقوه وانقادوا له"، وقال الطحاوي: "وهو المبعوث إِلَى عامَّة الجِنِّ، وكافَّةِ الوَرَى، بالحقِّ والهُدَى، وبالنُّورِ والضِّياءِ". وقال الشيخ ابن باز: "فهذه الآيات وما جاء في معناها دالة على عموم رسالته صلى الله عليه وسلم للإنس والجن".
إن عموم رسالة نبينا صلى الله عليه وسلم وبعثته للإنس والجن من الأمور التي خصه الله تعالى بها على سائر إخوانه الأنبياء، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أعطيت خمساً، لم يعطهن أحد قبلي: كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى كل أحمر وأسود، وأحلت لي الغنائم، ولم تحل لأحد قبلي، وجعلت لي الأرض طيبة، وطهورا، ومسجدا وأيما رجل أدركته الصلاة صلى حيث كان، ونصرت بالرعب بين يدي مسيرة شهر، وأعطيت الشفاعة) رواه مسلم، قال النووي: "قيل: المراد بالأحمر البيض من العجم وغيرهم، وبالأسود العرب لغلبة السمرة فيهم وغيرهم من السودان، وقيل الأحمر: الإنس، والأسود: الجن، والجميع صحيح فقد بُعِث إلى جميعهم"، وقال ابن حجر والقاضي عياض: "وقيل: الأحمر الإنس، والأسود الجن"، وقال ابن عبد البر: "ولا يختلفون أنه صلى الله عليه وسلم بُعِث إلى الإنس والجن، وهذا مما فُضِّل به على الأنبياء".
وقد روى البخاري عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال: (انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفةٍ من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظٍ (موسم معروف للعرب)، وقد حِيلَ بين الشياطين وبين خبر السماء، وأرسلت عليهم الشهب، فرجعت الشياطين، فقالوا: ما لكم؟ فقالوا: حيل بيننا وبني خبر السماء، وأرسلت علينا الشهب. قال: ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا ما حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها فانظروا ما هذا الأمر الذي حدث؟ فانطلقوا فضربوا مشارق الأرض ومغاربها ينظرون ما هذا الأمر الذي حال بينهم وبين خبر السماء؟ قال: فانطلق الذين توجهوا نحو تهامة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنخالة وهُو عامدٌ إلى سوق عكاظٍ وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن تسمعوا له، فقالوا: هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء، فهنالك رجعوا إلى قومهم فقالوا: يا قومنا، إنا سمعنا قرآناً عجباً يهدي إلى الرشد فآمنا به، ولن نُشرك بربنا أحداً. وأنزل الله عز وجل على نبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ}(الجن:1)، وإنما أُوحِيَ إليه قول الجنّ).
قال ابن حجر في الفتح: "وفي الحديث إثبات وجود الشياطين والجن وأنهما لمسمى واحد، وإنما صارا صنفين باعتبار الكفر والإيمان، فلا يقال لمن آمن منهم إنه شيطان..".
فائدة :
الرواية السابقة للبخاري لحديث ابن عباس رضي الله عنه، قد أخرجها مسلم مع زيادة فيها نفي ابن عباس لرؤية النبي صلى الله عليه وسلم للجن وقراءته عليهم، فقال: (ما قرأ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على الجنِّ وما رآهم ..)، وفي رواية لمسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه أثبت فيها لقاء النبي صلى الله عليه وسلم بالجن ورؤيته لهم وقراءته عليهم، فتلك حادثة متأخرة أتت بعد هذا اللقاء، فعن علقمة قال: (سألت ابن مسعود فقلت: هل شهد أحد منكم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن؟ قال: لا، ولكننا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة ففقدناه فالتمسناه في الأودية والشِّعاب، فقلنا: استُطِير أو اغتيل، قال: فبتنا بشرِّ ليلة بات بها قوم، فلما أصبحنا إذا هو جاء من قبل حراء فقلنا: يا رسول الله! فقدناك فطلبناك فلم نجدك، فبتنا بشر ليلة بات بها قوم، فقال: أتاني داعي الجن فذهبت معه، فقرأت عليهم القرآن، قال: فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم) رواه مسلم.
قال الحافظ ابن حجر في الفتح جامعاً بين نفي ابن عباس وإثبات ابن مسعود: "ويمكن الجمع بالتعدد"، وقال القاضي عياض: "وقوله فى حديث ابن عباس: (ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجن ولا رآهم)، وذكر خروجه إلى عكاظ واستماعهم له، وقوله فى حديث ابن مسعود: (أتانى داعى الجن فذهبت معهم فقرأت عليهم القرآن)، يجمع بين الحديثين بأن يكونا قصتين، حديث ابن عباس فى شأن: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الجِنّ} وأول بحث الجن عن خبره، وقد اختلف المفسرون هل علم النبى صلى الله عليه وسلم بهم حين أوحى إليه باستماعهم له، أو لم يعلم إلا بعد ذلك؟ وحديث ابن مسعود فى حين أتوه ليقرأ عليهم القرآن فيكون وفداً آخر، والجمع أولى من المعارضة والاختلاف، ولا تنافي في هذا".
من جملة خصوصيات نبينا صلى الله عليه وسلم الكثيرة: عموم بعثته ورسالته للخَلق كافة ـ إنْسهم وجِنّهم ـ، وهذا ثابت بنص القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة، قال ابن تيمية: "ومما يجب أن يُعْلم أن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم إلى جميع الإنس والجن، فلم يبق إنسي ولا جِنِّي إلا وجب عليه الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم واتباعه، فعليه أن يصدقه فيما أخبر ويطيعه فيما أمر، ومن قامت عليه الحجة برسالته فلم يؤمن به فهو كافر سواء كان إنسياً أو جنيا" .