بدأ النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى الله عز وجل سراً حفاظاً منه على الدعوة وعلى من معه من المؤمنين وهم قلة، وقد ظل صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الله سراً، حتى نزل قول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا المُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ}(المدَّثر1: 2)، قال ابن هشام: "ثم دخل الناس في الإسلام أرسالا من النساء والرجال، حتى فشا ذكر الإسلام بمكة وتحدّث به، فأمر الله رسوله أن يصدع بما جاءه من الحق، وأن يبادي الناس بأمره وأن يدعو إليه، وكان بين ما أخفى رسول الله أمره واستتر به إلى أن أمره الله بإظهار دينه ثلاث سنين من مبعثه، ثم قال الله له: {فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ}(الحجر:94)، وقال له: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}(الشعراء:214)".
وبعد نزول قول الله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}(الشعراء:214)، جمع النبي صلى الله عليه وسلم قريشاً ليدعوهم إلى دين الله عز وجل جهراً، فعن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال: لما نزل قول الله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}(الشعراء:214)، صعد النبي صلى الله عليه وسلم عَلَى الصَّفَا (جبل الصفا) فجعل ينادي: يَابني فِهْرٍ، يَابني عَدِيٍّ ـ لبطون قريش ـ حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما الأمر؟ فجاء أبو لهب وقريش، فقال:أرأيتكم (أخبروني) لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مُصَدِّقِيَّ؟ قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقا!! (وفي رواية قالوا: ما جربنا عليك كذبا)، قال: إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فقال أبو لهب: تباً (هلاكا) لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا، فَنَزَلَتْ: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ}(المسد2:1)) رواه البخاري.
قال المناوي: "{وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}(الشعراء:214) أي: أنذرهم وإن لم يسمعوا قولك، أو لم يقبلوا نصحك، فإن ذلك ليس عذرا مسقطا للتبليغ".
ومن لحظة جهر النبي صلى الله عليه وسلم بالدعوة إلى التوحيد والإسلام، كذبه قومه وعادوه، وبعد أن كانوا يسمونه الصادق الأمين، قالوا ساحر أو مجنون، وفي ذلك قال الله تعالى: {وَقَالُواْ يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ}( الحجر:6)، قال ابن كثير: "أي: في دعائك إيانا إلى اتباعك وترك ما وجدنا عليه آباءنا"، وقال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ}(الذاريات:52)، قال ابن كثير: "يقول تعالى مُسَلِّيَاً نبيه صلى الله عليه وسلم: وكما قال لك هؤلاء المشركون، قال المكذبون الأولون لرسلهم: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ}"، وقال السعدي: "يقول الله مسلياً لرسوله صلى الله عليه وسلم عن تكذيب المشركين بالله، المكذبين له، القائلين فيه من الأقوال الشنيعة، ما هو منزه عنه، وأن هذه الأقوال، ما زالت دأباً وعادة للمجرمين المكذبين للرسل، فما أرسل الله من رسول إلا رماه قومه بالسحر أو الجنون".
وقال ابن القيم في زاد المعاد: "ولما أنزل عليه: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ}(الحجر: 94) صدع (جهر) بأمر الله، لا تأخذه في الله لومة لائم، فدعا إلى الله الكبير والصغير، والحر والعبد، والذكر والأنثى، والجن والإنس. ولما صدع بأمر الله، وصرح لقومه بالدعوة، وبادأهم بسب آلهتهم، وعيب دينهم، اشتد أذاهم له ولمن استجاب له من أصحابه، ونالوه ونالوهم بأنواع الأذى، وهذه سنة الله عز وجل في خلقه كما قال تعالى: {مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ}(فُصِّلَتْ: 43)، وقال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ}(الأنعام: 112)".
ومع شدة ما لاقاه النبي صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين بمكة، ظل صابراً ثابتاً يدعوهم إلى الإسلام، بل وخرج للوفود القادمة إلى مكة يدعوها إلى التوحيد والإسلام.. ولم تسكت قريش على ذلك، فأخذوا يواجهون النبي صلى الله عليه وسلم ويحاربونه بأساليب مختلفة، ومن هذه الأساليب: الاستهزاء والتكذيب، والإغراءات والمساومات.
ومن بين ما احتالت به قريش لإيقاف دعوة النبي صلى الله عليه وسلم ومحاولة القضاء عليها: شكايتهم النبي صلى الله عليه وسلم لعمه وكافله أبي طالب، الذي كان ـ رغم كفره وبقائه على ملة وكفر قريش ـ يحب النبي صلى الله عليه وسلم حباً شديداً، ويدافع عنه، ويرد على كل من يؤذيه، فذهبت قريش إليه محاولة منها لتحريضه على النبي صلى الله عليه وسلم للكف عن الدعوة لهذا الدين الجديد، وقد فشلت هذه المحاولة أيضا.
فعن عقيل بن أبي طالب رضي الله عنه قال: (جاءت قريش إلى أبي طالب فقالوا: أرأيتَ أحمد يؤذينا في نادينا وفي مسجدنا فانهَهُ عن أذانا، فقال: يا عقيل ائتني بمحمد، فذهبتُ فأتيته به فقال: يا ابن أخي إن بني عمِّك زعموا أنك تؤذيهم في ناديهم وفي مسجدهم فانتَهِ عن ذلك، قال: فلحَظ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ببصره ـ وفي رواية فَحَلَّقَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بَصَرَه ـ إلى السّماء فقال: أَترَون هذهِ الشَّمس؟ قالوا: نعم، قال: ما أنا بَأَقدرَ على أن أَدَعَ لكُم ذلك مِنْ أن تُشْعِلوا لي منها شُعْلة (يعني الشمس)، قال: فقال أبو طالب: ما كَذَبنَا ابنُ أخي قط (أبدا)، فَارْجِعوا) رواه الطبراني وأبو يعلى وحسّنه ابن حجر، وحسنه كذلك الألباني وقال: "وأما حديث: (يا عماه، والله لوْ وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يُظهره الله أو أهلك فيه ما تركتُه) فليس له إسناد ثابت، ولذلك أوردْتُه في الأحاديث الضعيفة، وقد وجدت للحديث طريقاً أخرى (الحديث السابق) بسند حسن لكن بلفظ: (ما أنا بأقدر على أن أدع لكم ذلك، على أن تشعلوا لي منها شعلة ـ يعني الشمس ـ)، وقد خرجته في الأحاديث الصحيحة" . وقد ذكر الذهبي الخبريْن في السيرة، وقال عن حديث عقيل: "رواه البخاري في (التاريخ) عن أبي كُريب عن يونس".
لقد حاول المشركون إغراء النبي صلى الله عليه وسلم بالمال والشرف والمُلك، لعله يرجع عن الدين الذي جاء به، أو يتنازل عن بعض الحق الذي يدعو إليه، فلم يفلحوا، وحرضوا عليه عمه الذي كان يدافع عنه ويحميه، لكنه صلى الله عليه وسلم ثبت كأنه جبل أشم، أمام الإغراءات والمساومات ولم يناقشها، ولم يثنه ذو نسب أو قرابة، ولم تشفع عنده محبة حبيب أو رجاء قريب، بل قال في وضوح وحسم وثبات أنه لن يترك هذا الأمر الذي بعثه الله عز وجل به، ولا إعلانه والدعوة إليه، كما أنكم يا قريش لا تستطيعون أن تشعلوا من الشمس شعلة، ولو جئتم بشعلة من الشمس ـ مع استحالة ذلك وعدم قدرتكم عليه ـ ما تركت هذا الحق والدعوة إليه، فقال صلى الله عليه وسلم لهم: (أَترَون هذهِ الشَّمس؟ قالوا: نعم، قال:ما أنا بَأَقدرَ علَى أن أَدَعَ لكُم ذلك مِنْ أن تُشْعِلوا لي منها شُعْلَةً)، فكان لذلك الثبات واليقين النبوي وقع كبير على المشركين وعلى عمه أبي طالب، حتى قال أبو طالب: "ما كَذَبنَا ابنُ أخي قط"، وقال قولته المشهورة:
واللَّهِ لَنْ يَصِلوا إِلَيْكَ بِجَمْعِهِمْ حَتَّى أُوَسَّدَ في التُرَابِ دَفِينا
فامْضِي لأَمْرِك ما عَلَيْكَ غَضَاضة أَبْشِرْ وَقِرَّ بِذَاكَ مِنْكَ عُيونا