القرآن الكريم حوى أحسن القصص، وهو إذ يفعل ذلك إنما يرمي إلى الاعتبار والاتعاظ بما تتضمنه تلك القصص من عبر وعظات ودورس حياة وتوجيهات دنيوية ومقاصد أخروية.
ومن هذا الباب ما ذكره سبحانه في أثناء قَصِّه لقصة قارون الباغي -وكان من قوم موسى عليه السلام-، والذي يمثل رمز أصحاب الثروة والمال والجاه، الذي خرج ذات يوم على قومه بكامل قوته وعتاده وماله، فلما مر في أحياء قومه وطرقات مساكنهم، أدهش جمهور عامة قومه، وسوادهم الأعظم، ومن المعتاد في أمثال هؤلاء في كل شعب، وفي جماهير كل أمة أنهم يريدون الحياة الدنيا؛ إذ هي المسيطرة على تصوراتهم، وهي المثيرة لمشاعرهم، واندفاعاً مع دهشتهم، قالوا: {يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم} (القصص:79).
عندئذ أسرع أولو العقل والعلم بقيادة موسى وهارون عليهما السلام؛ لإصلاح الفساد الفكري والنفسي الذي أحدثه هذا الاستعراض الخادع الخلاب في الجمهور من بني إسرائيل. {وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ولا يلقاها إلا الصابرون} (القصص:80). ولنا مع هذه الآية بضع وقفات:
الوقفة الأولى: قوله سبحانه: {وقال الذين أوتوا العلم} هذا التصدير في الآية يبين مكانة أهل العلم في المجتمع، وأنهم هم الربان الذين يوجهون دفة سفينة المجتمع، وهم قوارب النجاة عندما تبدأ سفينة المجتمع تتجه نحو الغرق والهلاك، فيسددون مسيرها، ويهدونها سبيلها. فالآية هنا تصور لنا انطلاق الفضلاء العلماء من بني إسرائيل -الذين عرفوا حقائق الأشياء، ونظروا إلى باطن الدنيا، حين نظر أولئك إلى ظاهرها- يبشرون بهذه الحقيقة، في جماهير العامة، الذين فُتنوا بالاستعراض الفخم الذي صنعه قارون الباغي تباهياً وافتخاراً وغروراً.
الوقفة الثانية: قوله سبحانه: {ويلكم} و(ويل) الأصل في هذا اللفظ أنه اسم للهلاك وسوء الحال، ويُستعمل أحياناً في التعجب المشوب بالزجر؛ فليس {الذين أوتوا العلم} داعين بـ (الويل) على الذين يريدون الحياة الدنيا؛ لأن المناسب لمقام الموعظة لين الخطاب؛ ليكون أعون على الاتعاظ، ولكنهم يتعجبون من تعلق نفوس أولئك بزينة الحياة الدنيا، واغتباطهم بحال قارون، دون الاهتمام بثواب الله، الذي يستطيعون تحصيله بالإيمان الصادق والعمل الصالح، وهم يعلمون أن قارون غير متخلق بالفضائل الدينية.
الوقفة الثالثة: قوله سبحانه: {ثواب الله خير} أي: الثواب العظيم الذي أعده الله لأهل طاعته خير من هذا الذي استعرضه قارون، وخير من كل ما لدى الجبابرة والفراعنة والقياصرة، وخير من كل الدنيا وما فيها. قال ابن عاشور: "وتقديم المسند إليه في قوله: {ثواب الله خير} ليتمكن الخبر في ذهن السامعين؛ لأن الابتداء بما يدل على الثواب المضاف إلى أوسع الكرماء كرماً مما تستشرف إليه النفس".
الوقفة الرابعة: قوله سبحانه: {لمن آمن وعمل صالحا} هذا المقطع من الآية يفيد أن هذا الثواب العظيم مُعَدٌّ بقضاء الله وقدره لمن آمن بما أوجب الله على عباده أن يؤمنوا به في رحلة امتحانهم، وعبَّر عن صحة إيمانه وصدقه بعمل صالح فيه مرضاة لله عز وجل؛ لأنه مما أمر بفعله إذا كان فعلاً، أو أمر بتركه مما كان تركاً، وبهذين الأمرين يكتسبون الصفة المؤهلة لثواب الله العظيم يوم الدين. قال ابن عاشور: "عدل عن الإضمار إلى الموصولية في قوله: {لمن آمن وعمل صالحا} دون: (خير لكم)، لما في الإظهار من الإشارة إلى أن ثواب الله إنما يناله المؤمنون، الذين يعملون الصالحات، وأنه على حسب صحة الإيمان ووفرة العمل، مع ما في الموصول من الشمول لمن كان منهم كذلك ولغيرهم ممن لم يحضر ذلك المقام".
الوقفة الخامسة: قوله سبحانه: {ولا يلقاها إلا الصابرون} أي: ولا ينال هذه الصفة المؤهِّلة لثواب الله العظيم إلا الصابرون عل أمر شرع الله والعمل بمقتضاه. ودلَّ قوله سبحانه {ولا يلقاها} على أن الإيمان والعمل الصالح -الَّذيْن دلَّ عليهما (من آمن وعمل صالحاً)- بمثابة صفة واحدة، هي شرط للظفر بثواب الله العظيم يوم الدين؛ إذ الإيمان الصحيح الصادق بما كلف الله عباده أن يؤمنوا به لا بد أن تكون له آثار في السلوك من عمل صالح فيه مرضاة لله عز وجل، فهما معاً بمثابة صفة واحدة، ومن هنا صح عود الضمير في {يلقاها} عليها بالإفراد والتأنيث، أخذاً من لازم مفهوم النص.
والحاصل هنا، أن ضمير {يلقاها} عائد إلى مفهوم من الكلام، يجري على التأنيث، أي: الخصلة، وهي ثواب الله، أو السيرة القويمة، وهي سيرة الإيمان والعمل الصالح.
ثم قال المفسرون: إن (التلقي) مستعمل في الإعطاء على طريقة الاستعارة، أي: لا يُعطى تلك الخصلة، أو السيرة إلا الصابرون؛ لأن الصبر وسيلة لنوال الأمور العظيمة، لاحتياج السعي لها إلى تجلُّد لما يعرض في خلاله من مصاعب وعقبات كأداء، فإن لم يكن المرء متخلقاً بالصبر خارت عزيمته، فترك ذاك لذاك.
الوقفة السادسة: والمهم في هذا السياق أن الشعور بتفاهة زينة المال والجاه وزخرف الحياة الدنيا درجة رفيعة لا يلقاها إلا الصابرون...الصابرون على معايير الناس ومقاييسهم. الصابرون على فتنة الحياة وإغرائها. الصابرون على الحرمان مما يتشهاه الكثيرون. الذين حبسوا أنفسهم على طاعة الله، ولجموا أنفسهم عن معصيته، وصبروا على أقداره المؤلمة، واستعلوا على جواذب الدنيا وشهواتها، وعقدوا العزم على أن لا تشغلهم هذه الحياة الفانية عن تلك الحياة الباقية، وأن لا تحول بينهم وبين ما خلقوا له، فهؤلاء الذين يؤثرون الآخرة على العاجلة. وعندما يعلم الله منهم الصبر كذلك، يرفعهم إلى تلك الدرجة، درجة الاستعلاء على كل ما في الأرض، والتطلع إلى ثواب الله في رضى وثقة واطمئنان.
الوقفة السابعة: ثم يقال بعد ما تقدم: إن المتأمل في شغف الناس بحطام الدنيا وتهافتهم عليها تهافت الفَراش على النار، والتفريط في أعظم أمور الآخرة، والمتأمل أيضاً في تفريط كثير من الآباء والأمهات في صلاة أولادهما، وتفريط أحد الزوجين في إيقاظ الآخر للصلاة والقيام بما فرض الله عليهم من الواجبات، نقول: إن المتأمل في ذلك ونحوه من الانكباب على الدنيا واللهاث وراء زخرفها ومفاتنها والتفريط في أمور الآخرة، يدرك أهمية استحضار نصيحة أهل العلم، التي رواها القرآن لنا في قصة قارون الباغي، مثمِّناً إياها، مفخِّماً لشأنها، حين قالوا لقومهم: {ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا} فثواب الله خير، وأن ما {عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون} (الشورى:36).