في رمضان من السنة الثامنة للهجرة النبوية الشريفة فتح الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم مكة، وهو الفتح الذي أعز الله به دينه ورسوله، ودخل به الناس في دين الله أفواجا، قال ابن القيم في "زاد المعاد": "فتح مكة هو الفتح الأعظم الذي أعز الله به دينه ورسوله وجنده وحزبه الأمين، واستنقذ به بلده الأمين وبيته الذي جعله هدى للعالمين من أيدي الكفار والمشركين، وهو الفتح الذي استبشر به أهل السماء، وضربت أطناب عزه على مناكب الجوزاء، ودخل الناس به في دين الله أفواجاً، وأشرق به وجه الأرض ضياء وابتهاجا".
ومن الأحداث والمواقف النبوية الهامة التي وقعت بعد فتح مكة:
تحطيم الأصنام:
أول شيء فعله النبي صلى الله عليه وسلم بعد دخوله مكة فاتحاً ومنتصرا: أنه توجه إلى المسجد الحرام، واستلم الحجر الأسود، وطاف بالكعبة التي كان حولها ثلاثمائة وستون صنماً، فجعل يكسرها وهو يردد قول الله تعالى: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً}(الإسراء:81)، وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكةَ وحول البيتِ ستون وثلاثمائة نُصُبٍ (صنم)، فجعل يطعنها بعودٍ في يده ويقول: {جَاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ البَاطِلُ إِنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا}(الإسراء:81)، {جَاءَ الحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ البَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ}(سبأ:49)) رواه البخاري. قال ابن حجر في فتح الباري: "فعَل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لإذلال الأصنام وعابديها، ولإظهار أنها لا تنفع ولا تضر ولا تدفع عن نفسها شيئا".
واستكمالاً لتحطيم الأصنام بعد فتح مكة أرسل النبي صلى الله عليه وسلم سرايا لتطهير الجزيرة العربية كلها من هذه الأصنام، ومن هذه السرايا: سرية خالد بن الوليد رضي الله عنه إلى العُزَّى، وسرية عمرو بن العاص رضي الله عنه إلى سواع، وسرية سعد بن زيد الأشهلي رضي الله عنه الى مناة، وقد قامت هذه السرايا الثلاث بمهمتها بتحطيم هذه الأصنام الثلاثة (العُزَّى وسواع ومناة). وكذلك قام المغيرة بن شعبة الثقفي وأبي سفيان بن حرب في هدم (اللات) صنم ثقيف فيما بعد، وبذلك أزيلت أكبر الأصنام المعروفة والموجودة في مكة وما حولها.
وفي هذا الموقف النبوي في تحطيمه للأصنام بعد فتح مكة: حماية للتوحيد، وسد للذرائع المفضية إلى الشرك بالله، لأن الشرك إذا حدث وسُكِت عنه وعن الأسباب التي ربما تؤدي إليه، لا يلبث أن يصير في حكم الواقع ومن المسلَّمات، قال السعدي في تفسيره لقول الله تعالى: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آَلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا}(نوح:23): "هذه أسماء رجال صالحين لما ماتوا زين الشيطان لقومهم أن يصوروا صورهم لينشطوا ـ بزعمهم ـ على الطاعة إذا رأوها، ثم طال الأمد، وجاء غير أولئك فقال لهم الشيطان: إن أسلافكم يعبدونهم، ويتوسلون بهم، وبهم يسقون المطر، فعبدوهم". وهذه الأصنام التي قام وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بتحطيمها ـ بعد فتح مكة ـ ظلت تُعبد من دون الله عز وجل مئات السنين، وكانت قريش تعتقد أن من يتعرض لها بسوء تصيبه وتضره، وأنها تنفع وتضر، ومع ذلك لم يحدث للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه شيء لما قاموا بتحطيمها، فظهرت الحقيقة واضحة أمام أعين المشركين أن هذه الأصنام حجارة لا تضر ولا تنفع، وأنهم كانوا في ضلال مبين.
بلال يؤذن على الكعبة:
الأذان شعار أهل التوحيد، وهو شعيرة من شعائر الإسلام والمسلمين، وفي قصة مشروعية وبداية الأذان على ما ذكرتها الأحاديث الصحيحة، دلائل ذات أهمية كبيرة: منها أن النبي صلى الله عليه وسلم حرص على أن تكون وسيلة الإعلام في الإسلام معبرة عن مبادئه، مذكرة بأصوله، مسايرة لأخلاقياته، ومن هنا رفض وسائل الإعلام غير الإسلامية مثل بوق اليهود، وناقوس النصارى، ونار المجوس، قال ابن حجر: "قال القرطبي وغيره: الأذان على قلة ألفاظه مشتمل على مسائل العقيدة، لأنه بدأ بالأكبرية: وهي تتضمن وجود الله وكماله، ثم ثنَّى بالتوحيد ونفي الشريك، ثم بإثبات الرسالة لمحمد صلى الله عليه وسلم، ثم دعا إلى الطاعة المخصوصة عقب الشهادة بالرسالة لأنها لا تعرف إلا من جهة الرسول، ثم دعا إلى الفلاح وهو البقاء الدائم، وفيه الإشارة إلى المعاد، ثم أعاد ما أعاد توكيداً، ويحصل من الأذان الإعلام بدخول الوقت، والدعاء إلى الجماعة، وإظهار شعائر الإسلام ".
وفي يوم فتح مكة حان وقت صلاة الظهر، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بلالاً رضي الله عنه أن يؤذن بالصلاة، فعلا على ظهر الكعبة فأذَّن عليها، ذكر ابن هشام وابن كثير في السيرة النبوية، وابن القيم في زاد المعاد: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، دخل الكعبة عام الفتح ومعه بلال، فأمره أن يؤذن، وأبو سفيان بن حرب وعتاب بن أسيد والحارث بن هشام جلوس بفناء الكعبة، فقال عتاب بن أسيد لقد أكرم الله أسيداً ألا يكون سمع هذا، فيسمع منه ما يغيظه. فقال الحارث بن هشام: أما والله لو أعلم أنه مُحِق لاتبعته، فقال أبو سفيان: لا أقول شيئاً، لو تكلمتُ لَأخْبرَتْ عني هذه الحَصَى، فخرج عليهم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: قد علمتُ الذي قلتم، ثم ذكر ذلك لهم، فقال الحارث وعتاب: نشهد أنك رسول الله، والله ما اطلع على هذا أحد كان معنا، فنقول أخبرك".
قول أبي سفيان: "لو تكلمتُ لَأخْبرَتْ عني هذه الحصى" يعني: أنه أدرك أن محمداً صلى الله عليه وسلم نبي يوحى إليه، وسوف يصل إليه الأمر عن طريق الوحي ـ وهذا صواب ـ، وذلك لأن من معجزات نبينا صلى الله عليه وسلم وإرهاصات نبوته أن الحجر كان يسلم عليه حتى من قبل بعثته، فعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: (كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم بمكة، فخرجنا في بعض نواحيها، فما استقبله جبل ـ أي حجر ـ ولا شجر، إلا وهو يقول: السلام عليك يا رسول الله) رواه الترمذي وصححه الألباني. وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إني لأعرف حجرا بمكة، كان يسلم علىَّ قبل أن أُبعث، إني لأعرفه الآن) رواه مسلم. قال النووي: "فيه معجزة له صلى الله عليه وسلم، وفي هذا إثبات التمييز في بعض الجمادات، وهو موافق لقوله تعالى في الحجارة: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (البقرة:74)".
لقد كان فتح مكة من أهم الانتصارات والفتوحات التي أكرم الله تعالى بها نبيه صلى الله عليه وسلم والمسلمين، فقد جاء هذا الفتح المبارك بعد سنوات متواصلة من الصبر والدعوة والجهاد لتبليغ رسالة الإسلام، وكان فيما صاحبه من أحداث ومواقف كتحطيم الأصنام، وأذان بلال رضي الله عنه: إيذاناً بإزالة الشرك ومعالمه ومظاهره، وانتهاء لعهد الجاهلية والظلمات والأصنام، وبداية لعصر التوحيد والنور والإسلام .