الإنسان مدني بطبعه، عبارة مشهورة عن فلاسفة من بعض الحضارات القديمة، إلا أن علماء المسلمين تداولوها بالقبول، قال ابن تيمية: "إِذ كان الإِنسَانُ مَدَنِيًّا بالطَبعِ، لا تَتِمُّ مَصلَحَتُه إلا ببَنِي جِنسِه، يُعَاونونه على جلبِ المـنفعة ودفع المـضَّرة.." وقال ابن القيم: "إن الإنسانَ مَدَنِيٌّ بالطبع، لا بد له أن يعيش مع الناس". وقال ابن العربي: "لما كان الإنسان مدنياً بالجِبِلَّة، مفتقراً إلى الصحبة بالضَرُورَة، لأنه خُلِقَ خَلقاً لا يَستَقِل بمعاشه ولا يستبد بمنافعه بل هو مُفتَقِرٌ في ذلك إلى غيره، وكان ذلك الغير إما مجتمعاً معه وإما مبايناً عنه..". وقال ابن عاشور: "والله بنى نِظَام هذا العالم على تعاون الناس بعضهم مع بعض، لأن الإنسان مدني بالطبع"، وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا}(الحجرات:13).
وإذا كان الإنسان بطبعه يؤثر الاجتماع على العزلة، ويعيش أطوار حياته بين أهله وإخوانه، وزوجته وأولاده، وأصحابه وجيرانه، ويحضر ويشارك في بعض العبادات جماعة مع غيره، فمن ثم ينبغي عليه أن يعرف ويتقن فقه التعامل مع الناس على اختلافهم، حتى يَسْلم من أن يَجْهل أو يُجهل عليه.. والأصل في المسلم معاملة الناس جميعاً بحُسن الأخلاق، وذلك لأن مكارم ومحاسن الأخلاق من أسباب بعثة نبينا صلى الله عليه وسلم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إِنما بُعثتُ لأتمّم مكارم الأخلاق) وفي رواية: (صالح الأخلاق) رواه أحمد وصححه الألباني. وقال صلى الله عليه وسلم في وصيته لمعاذ رضي الله عنه: (وخالق الناس بخلق حسن) رواه أحمد والترمذي وحسنه الألباني، قال ابن عثيمين: "والمعنى: عاملِ الناس بالأخلاق الحسنة بالقول وبالفعل".. والأحاديث التي تحث على فضل التحلي بمكارم الأخلاق كثيرة.
ومن المعلوم أن هناك مفاتيح كثيرة لعقول وقلوب الناس، يمكن من خلالها كسبهم وتقويمهم ولو كانوا مختلفي وخشني الطباع، وهذه المفاتيح كلها في معاملتهم بحُسن الأخلاق، وهذا من أعظم ما يجلب الحب والود، وينفي ويزيل الفرقة والشقاق بين أفراد المجتمع.
معاملة الناس على حسب طبائعهم، واختلافهم، ومنزلتهم:
من الهدي والفقه النبوي: معاملة الناس على حسب طبائعهم ومكانتهم، فمن الناس من هو هين لين، ومنهم من هو فظ خشن الطبع، ومنهم العالم والجاهل، والغني والفقير، والكبير والصغير، والعاقل والمجنون، فيعامل كل حسب طبعه ومنزلته ـ مع الانضباط بضوابط الشرع ـ، وفي ذلك تقوية لآصرة الألفة والحب والمودة.. فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الناس معادن كمعادن الفضة والذهب، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا، والأرواح جنودٌ مجندةٌ، فما تعارف منها ائتلف، وما تنافر منها اختلف) رواه مسلم، وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تعالى خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدْر الأرض، جاء منهم الأحمر والأبيض والأسود، وبين ذلك، والسَّهلُ، والحزْن، والخبيث والطيِّب، وبين ذلك) رواه أبو داود وصححه الألباني. وفي عون المعبود شرح سنن أبي داود: "فجاء بنو آدم على قدر الأرض: أي مبلغها من الألوان والطباع (جاء منهم الأحمر والأبيض والأسود): بحسب ترابهم، وهذه الثلاثة هي أصول الألوان وما عداها مركب منها وهو المراد بقوله (وبين ذلك): أي بين الأحمر والأبيض والأسود باعتبار أجزاء أرضه ـ قاله القاري ـ،(والسهل): أي ومنهم السهل أي اللين المنقاد، (والحزن): بفتح الحاء وسكون الزاي أي: الغليظ الطبع، (والخبيث): أي خبيث الخصال، (والطيب): قال الطيبي: أراد بالخبيث من الأرض الخبيثة السبخة، ومن بني آدم الكافر، وبالطيب من الأرض العذبة، ومن بني آدم المؤمن".
النّاسُ كالأرضِ ومنها هُمُ مِن خَشِنِ الملْمَسِ ومن لَيِّنِ
فجنـدلُ تَدمـى بـهِ أَرجُـلٌ وإِثمدُ يُجعلُ فِي الأعْيُنِ
والجندل: حجر ، والإثمد: الكحل .
وقد قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بِالعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ}(الأعراف:199)، قال السعدي في تفسيره: "هذه الآية الكريمة جامعة لمعاني حسن الخلق مع الناس، وما ينبغي للعبد سلوكه في معاملتهم ومعاشرتهم، فأمر تعالى بأخذ {الْعَفْوَ} وهو ما سمحت به أنفسهم، وسهلت به أخلاقهم من الأعمال والأخلاق، بل يقبل ما سهل، ولا يكلفهم ما لا تسمح به طبائعهم، ولا ما لا يطيقونه، بل عليه أن يشكر من كل أحد ما قابله به من قول وعمل وخلق جميل، وما هو دون ذلك، ويتجاوز عن تقصيرهم، ويغض طرفه عن نقصهم، وعما أتوا به وعاملوه به من النقص، ولا يتكبر على صغير لصغره، ولا ناقص العقل لنقصه، ولا الفقير لفقره، بل يعامل الجميع باللطف، وما تقتضيه الحال الحاضرة، وبما تنشرح له صدورهم، ويوقر الكبير، ويحنو على الصغير، ويجامل النظير".
أما معاملة الناس على قدر مكانتهم ومنزلتهم فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (أنزلوا الناس منازلهم) رواه أبو داود وضعفه الألباني، وإن كان هذا الحديث ضعيفاً، إلا أن في السنة شواهد كثيرة تدل على معناه، ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويعرف شرف كبيرنا) رواه الترمذي وصححه الألباني. وقوله صلى الله عليه وسلم: (أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود) رواه أبو داود وصححه الألباني، وليس في ذلك تعارض مع مبدأ المساواة والعدل بين الناس الذي أقامه ودعا إليه النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما فيه رفع المؤاخذة بالخطأ والذنب إذا صدر عمَّن لم يكن من عادته ذلك، وعُرِفَ بالاستقامة والصلاح والمكانة، إلا ما كان حداً من حدود الله تعالى وبلغ الحاكم فيجب إقامته.
يقول ابن القيم في قوله صلى الله عليه وسلم: (ذوي الهيئات): "والظاهر أنهم ذوو الأقدار بين الناس من الجاه والشرف والسؤدد، فإن الله تعالى خصّهم بنوع تكريم وتفضيل على بني جنسهم، فمن كان منهم مستوراً مشهوراً بالخير حتى كبا به جواده، وأديل عليه شيطانه فلا نسارع إلى تأنبيه وعقوبته، بل تقال عثرته ما لم يكن حداً من حدود الله فإنه يتعيّن استيفاؤه من الشريف كما يتعيّن أخذه من الوضيع، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعتُ يدها) رواه مسلم، وهذا باب عظيم من أبواب محاسن هذه الشريعة الكاملة، وسياستها للعالم، وانتظامها لمصالح العباد في المعاش والمعاد".
وقال ابن تيمية: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يتألف قوما، ويهجر آخرين، كما أن الثلاثة الذين خُلِّفوا كانوا خيراً من أكثر المؤلفة قلوبهم، لما كان أولئك كانوا سادة مطاعين في عشائرهم، فكانت المصلحة الدينية في تأليف قلوبهم، وهؤلاء كانوا مؤمنين، والمؤمنون سواهم كثير، فكان في هجرهم عز الدين، وتطهير من ذنوبهم".
وحين أسلم أبو سفيان في فتح مكة قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من دخل دار أبي سفيان فهو آمِن) رواه مسلم، ومن المعلوم أن أبا سفيان كان من سادات قريش ومثله يحب الفخر، ففي تكريم النبي صلى الله عليه وسلم له وتخصيص بيته للأمن والأمان إرضاء لما تتطلع إليه نفسه، وفي هذا تثبيت له على الإسلام وتقوية لإيمانه، ولذلك قال أبو سفيان: "بأبي أنت وأمي يا محمد، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك".
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في كتابه الذي أرسله إلى هرقل يدعوه فيه إلى الإسلام: (بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم..) رواه البخاري.
من الفقه النبوي في التعامل مع الناس: معاملتهم بحسن الأخلاق، وعلى حسب طبائعهم واختلاف بيئتهم وثقافتهم ومكانتهم في قومهم، مع مراعاة عدم تعدي حدود الله، وهذا منهج نبوي كريم، على المسلمين عامة والمربين والدعاة خاصة أن يعملوا به في دعوتهم وتربيتهم وتعاملهم مع الناس.. وخير الهدي هدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وقد قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}(الأحزاب:21).