الغدر خُلُقٌ ذميم من أخلاق المنافقين، والوفاء بالعهود والمواثيق من الأخلاق الفاضلة والصفات الطيبة التي أكد نبينا صلى الله عليه وسلم عليها، ودعا إليها بقوله وفعله، ولم يتخلف وفاؤه طوال حياته لأحدٍ أبداً، أقرَّ بذلك العدو والصديق، فمع كفر مشركي قريش به وشدة عداوتهم له، إلا أنهم اعترفوا وأقروا بفضله ووفائه، فقال مكرز بن حفص لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما عُرِفتَ بالغدر صغيراً ولا كبيراً، بل عُرِفتَ بالبر والوفا". ولما سأل هرقل أبا سفيان - وهو عدو لرسول الله حينئذ -: "أيغدر محمد؟ فقال: لا، فقال هرقل: وكذلك الرسل لا تغدر".
وكان صلى الله عليه وسلم يحذر أصحابه من الغدر، وينهى قادة جيوشه عنه، فعن بريدة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمَّر أميراً على جيشٍ أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله، ومن معه من المسلمين خيرا، ثم قال: (اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا فلا تغلوا (تأخذوا شيئاً من المغنم قبل قسمته)، ولا تغدروا، ولا تُمَثِّلوا (لا تشوهوا ولا تقطعوا شيئاً من جثث عدوكم)، ولا تقتلوا وليدا) رواه البخاري.
قال المناوي: "الغدر: نقض العهد والإخلال بالشَّيء وتركه", وقال النووي: "قوله صلى الله عليه وسلم ـ: (ولا تغدروا) بكسر الدال.. وفي هذه الكلمات من الحديث فوائد مجمع عليها وهي تحريم الغدر". وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يَدَعها (يتركها): إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر) رواه مسلم، قال النووي: "الصحيح المختار أن معناه أن هذه الخصال خصال نفاق، وصاحبها شبيه بالمنافقين في هذه الخصال، ومتخلّق بأخلاقهم، فإن النفاق هو إظهار ما يبطن خلافه، وهذا المعنى موجود في صاحب هذه الخصال، ويكون نفاقه في حق من حدثه ووعده وائتمنه وخاصمه وعاهده من الناس، لا أنه منافق في الإسلام فيظهره وهو يبطن الكفر، ولم يرد النبي صلى الله عليه وسلم بهذا أنه منافق نفاق الكفار المخلدين في الدرك الأسفل من النار"، وقال المناوي: "(وإذا عاهد غدر) أي: نقض العهد"، وقال ابن عثيمين: "(وإذا عاهد غدر) يعني: إذا أعطى عهداً على أي شيء من الأشياء غدر به ونقض العهد، وهذا يشمل المعاهدة مع الكفار، والمعاهدة مع المسلم في بعض الأشياء ثم يغدر بذلك".
لقد حرم نبينا صلى الله عليه وسلم الغدر، سواء كان مع مسلم أم مع كافر أو فاجر، والسيرة النبوية زاخرة بالمواقف والأحاديث الدالة على النهي عن الغدر ولو كان مع المشركين، ومنها:
ـ سافر المغيرة بن شعبة وهو مشرك مع بعض أصحابه من المشركين، فغدر بهم وقتلهم وأخذ أموالهم، ولما شاء الله عز وجل له الهداية، توجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليعلن إسلامه، فقد روى البخاري في صحيحه عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أنه كان قد صحب قوماً (قبل إسلامه) في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم، ثم جاء فأسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أما الإسلام فَأَقْبَلُ، وأما المال فَلَسْتُ منه في شيء)، وفي رواية لأبي داود وصححها الألباني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمغيرة: (أما الإسلام فقد قبلنا، وأما المال فإنه مال غدرٍ لا حاجة لنا فيه)، قال الخطابي في معالم السنن: "وفي قوله صلى الله عليه وسلم للمغيرة: (أما الإسلام فأقبل، وأما المال فلستُ منه في شيء) دليل على أن أموال أهل الشرك وإن كانت مباحة للمسلمين مغنومة إذا أخذوها منهم قهراً، فإنها ممنوعة بالأمان لهم، مردودة إلى أربابها إذا أخذت في حال المسالمة والأمان، وذلك أن المغيرة إنما صحبهم صحبة الرفقاء في الأسفار، والرفيق في السفر يأمن رفيقه على نفسه وماله، فكان ما أتاه المغيرة من سفك دمائهم وأخذ أموالهم غدراً منه، والغدر محظور غير جائز، والأمانة مؤداة إلى البر والفاجر". وقال ابن حجر في فتح الباري: "قوله: (أما الإسلام فأقبل) بلفظ المتكلم، أي: أقبله، قولـه: (وأما المال فلستُ منه في شيءٍ) أي: لا أتعرض له لكونه أخذه غدراً، ويستفاد منه: أنه لا يحل أخذ أموال الكفار في حال الأمن غدراً، لأن الرفقة يصطحبون على الأمانة، والأمانة تؤدَّى إلى أهلها مسلِماً كان أو كافراً، وأن أموال الكفار إنما تحل بالمحاربة والمغالبة، ولعل النبي صلى الله عليه وسلم ترك المال في يده لإمكان أن يسلم قومه فيرد إليهم أموالهم".
ـ عن حذيفة رضي الله عنه قال: (ما منعني أن أشهدَ بدراً إلا أني خرجتُ أنا وأبي حُسَيْل، فأخذنا كفارُ قريشٍ، قالوا: إنكم تريدون محمداً؟ فقلنا: ما نريدُه، ما نريد إلا المدينة، فأخذوا منا عهدَ الله وميثاقه لننصرفنَّ إلى المدينة ولا نُقاتل معه، فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرناه الخبر، فقال: انصرفا، نَفِي بعهدِهم، ونستعينُ اللهَ عليهم) رواه مسلم. قال المناوي: "(انصرفا، نَفِي بعهدِهم) أمْرٌ لحذيفة وأبيه بالوفاء للمشركين بما عاهدوهما عليه حين أخذوهما وأخذوا عليهما أن لا يقاتلوهما يوم بدر، فاعتذرا للنبي صلى الله عليه وسلم، فقبل عذرهما وأمرهما بالوفاء، (ونستعين الله عليهم) أي: على قتالهم، فإنما النصر من عند الله لا بكثرة عَدَد ولا عُدَد، وقد أعانه الله تعالى وكانت واقعة (بدر) أعزَّ الله بها الإسلام وأهله". قال المهلب: "الغدر حرام بالمؤمنين وبأهل الذمة، وفاعله مستحق لاسم النفاق وللعنة الله والملائكة والناس أجمعين..".
ـ بعد الانتهاء من كتابة وثيقة صلح الحديبية بين النبي صلى الله عليه وسلم والمشركين، جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو رضي الله عنه وهو في قيوده هارباً من المشركين في مكة، فقام إليه أبوه ـ سهيل ـ فضربه في وجهه وقال: هذا يا محمد أول من أقاضيك عليه أن ترده إليَّ ـ وذلك حسب العهد بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم ـ. فأعاده النبي صلى الله عليه وسلم للمشركين، فقال أبو جندل: يا معشر المسلمين أَأُرَدّ إلى المشركين يفتنونني في ديني؟! فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إنا عقدنا بيننا وبين القوم عهداً، وإنا لا نغدر بهم)، ثم طمأنه وبشره النبي صلى الله عليه وسلم قائلا: (يا أبا جندل اصبر واحتسب، فإن الله جاعل لك ولمن معك فرجاً ومخرجا) رواه أحمد.
ـ عن الحسن بن علي بن أبي رافع أن أبا رافع أخبره قال: بعثتني قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أُلقِيَ في قلبي الإسلام، فقلت يا رسول الله: إني والله لا أرجع إليهم أبدا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إني لا أخيس (أنقض) بالعهد، ولا أحبس البُرْدَ (الرسل)، ولكن ارجع فإن كان في نفسك الذي في نفسك الآن فارجع، قال: فذهبت، ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأسلمت) رواه أبو داود صححهالألباني. قال ابن القيم: "قال أبو داود: وكان هذا في المدة التي اشترط لهم أن يرد إليهم من جاء منهم"، وقال الهروي: "وفيه أن العهد يُراعَى مع الكفار كما يراعى مع المسلمين".
الغادرون أشد الناس فضيحة يوم القيامة:
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الغادر يُرفَعُ له لواءٌ يوم القيامة، يقال: هذه غَدرة فلانِ بن فلان) رواه البخاري. قال ابن بطال: "وهذه مبالغة في العقوبة وشدة الشهرة والفضيحة"، وقال النووي: "معنى: (لكل غادر لواء) أي: علامة يشهَر بها في الناس، لأن موضوع اللواء الشهرة. وفي هذه الأحاديث بيان غلظ تحريم الغدر، لا سيما من صاحب الولاية العامة، لأنَّ غدره يتعدّى ضرره إلى خلق كثيرين. وقيل: لأنه غير مضطر إلى الغدر لقدرته على الوفاء"، وقال ابن حجر: "أي: علامة غدرته، والمراد بذلك شهرته وأن يفتضح بذلك على رؤوس الأشهاد، وفيه تعظيم الغدر سواء كان من قِبَل الآمر أو المأمور".
لقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى في مكارم الأخلاق، فكل خلق محمود له منه القسط الأكبر، والحظ الأوفر، وكل وصف مذموم فهو أسلم الناس منه، وأبعدهم عنه، ولن تجد في كتب التاريخ والسير ـ من فجر الخليقة إلى قيام الساعة ـ أحداً يداني أو يضاهي رسول الله صلى الله عليه وسلم في كمال خُلقه، وباهر وفائه، فهو خير البرية أقصاها وأدناها، وهو أبرّ بني الدنيا وأوفاها، وقد قال الله تعالى عنه: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}(القلم:4)، وما وُجِدَ على الأرض أنقى سيرة وسريرة، وأوفى بوعْد وعهدٍ ـ مع صديق أو عدو ـ منه صلى الله عليه وسلم، فلم يؤثر عنه في حياته كلها أنه نقض عهداً قطعه على نفسه، ولذلك كان أعداؤه مع كفرهم به وشدة عداوتهم له يقولون عنه: "ما عُرِفتَ بالغدر صغيراً ولا كبيرا، بل عُرِفتَ بالبرِّ والوَفا".