ما أكثر الآباء الذين يشتكون سهر أبنائهم في الليل ونومهم في النهار، وهم يعلنون عجزهم عن صرف أبنائهم عن هذه العادة التي يرونها ضارة بصحتهم، ومعطلة لنجاحهم في عملهم ودراستهم وحياتهم.
وهؤلاء الآباء على حق، فهذا السهر مخالف لفطرة الله التي فطر الناس عليها، وضار بأبدانهم، ومفسد لحياتهم، ومؤذ لعقولهم ونفوسهم.
قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ}. (يونس:67).
وقال عزوجل: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا}. (الفرقان:47).
والسهر، وهو تأخير النوم إلى ساعات متأخرة من الليل، بات عادة سيئة منتشرة في العالم كله، بسبب رئيس هو التقدم التكنولوجي الذي أسهم في جعل معظم محطات البث الفضائية تتواصل في الليل كما في النهار، والهواتف الذكية، وسواها، وسواها..
أضرار السهر
ولنبدأ ببيان بعض أضرار السهر:
- تكرار السهر يضعف البدن ويوهنه، ويصيب جهاز المناعة بالخلل، فيصبح البدن أعجز في مقاومة الأمراض.
- تتراجع قدرة العقل على الإبداع، واتخاذ القرار الصحيح، والانتباه في السياقة، وتشغيل الأجهزة، وتضعف الذاكرة، والقدرة على التركيز.
- يزيد في الإصابة بالأمراض، وظهور وتقوية أعراضها إذا كان الإنسان مصابا بها، مثل ارتفاع ضغط الدم، الصداع، الإغماء، رجفة اليد، الغثيان، الدوار، الشحوب.
- المداومون على السهر ينخفض لديهم إفراز هرمون الكورتيزون في الليل، وهذا يؤثر سلبا في الجزء من الدماغ الذي ينظم الهضم والمزاج والنمو وسواها.
- يصيب السهر بتسمم يشبه التسمم الكحولي؛ فمن تستمر يقظته 18 ساعة متواصلة أو أكثر ترتفع في دمه نسبة الكحول إلى 50%.
- يزيد السهر المشاعر السلبية مثل القلق والتوتر والاكتئاب والتشاؤم. وأكدت تجارب الدراسات العلمية أن 60% من الذين يعانون الاكتئاب تحسنت أحوالهم وتراجع اكتئابهم بعد حصولهم على قسط وافر من النوم المبكر كانوا محرومين منه.
- نقص النوم يجعل الطلاب أقل تركيزا، وأضعف فهما، وأدنى استيعابا للدروس التي يحضرونها، والتحصيل الذي يقومون به.
وأحسب أن أضرار السهر على الإنتاج في المصانع والمؤسسات والشركات لا تقل حجما وخطرا عن أضراره على الأفراد، وكذلك ضرره في وقوع الحوادث المرورية وسواها.
والسؤال الذي لابد منه هو ماذا نفعل من أجل صرف الأبناء وغير الأبناء عن السهر؟
يحسن أولا أن نعرض عليهم الأضرار السابقة للسهر، ونشرحها لهم، ونتحاور حولها معهم، حتى يدركوا ما يسببونه لأنفسهم من أذى، وما يلحقونه بها من ضرر وخطر.
ثم نساعدهم في البدء بالتبكير في النوم ولو بالتدريج؛ فإذا كانوا يسهرون حتى الثانية بعد منتصف الليل، نوجههم لتقديم النوم إلى الواحدة، وبعد عدة أيام نقدمه إلى الثانية عشرة، ثم إلى الحادية عشرة...
ولابد أيضا من معالجة الأسباب المعينة على السهر، مثل شرب المنبهات -كالقهوة والكولا وسواهما- بعد العصر؛ لأن المواد المنبهة التي تحتويها هذه المشروبات من كافيين وغيره يستمر مفعولها عدة ساعات.
كذلك نشجعهم على تناول الحليب واللبن اللذين يعتبران من الأشربة والأطعمة التي تساعد على النوم، فقد ذكرت عدة دراسات أن تناول الحليب الدافئ يحرر الميلاتونين (هرمون النوم)، وكذلك الأندروفين الهرمون المسكن الطبيعي للألم والمساعد على الاسترخاء والنوم.
كذلك فإن تناول الحبوب الكاملة والتي تدخل في صناعة بعض الأطعمة والمخبوزات، مثل رقائق الذرة والتوست الأسمر، يملأ المعدة ويسكن الجوع الذي قد يوقظ النائم. كذلك تساعد الحبوب الكاملة في تحرير مادة السيراتونين في الدماغ فتمنح الجسم الاسترخاء.
ولا ننسى العسل الذي يسهم في علاج الارتجاع الحمضي بسبب غناه بالبوتاسيوم ومواد غذائية أخرى.
وينبغي أن نمنع أبناءنا من النوم بعد العصر، بل حتى القيلولة التي تكون بعد الضحى إلى ما قبل العصر يجب ألا تطول كثيرا كي لا تحول دون إعانتهم على النوم المبكر.
بعد قراءتنا هذا البيان العلمي سنجد أن الإسلام قد سبق إليه، كما نجد في سيرة النبي " صلى الله عليه وسلم" ، وفي توجيهاته ووصاياه فقد صح عنه " صلى الله عليه وسلم" أنه كان يكره النوم قبل العشاء والكلام بعدها، كما روى البخاري ومسلم عن أبي برزة "رضي الله عنه" أنه " صلى الله عليه وسلم" «كان يكره النوم قبل العشاء والحديث بعدها» (متفق عليه).
قال النووي: «واتفق العلماء على كراهة الحديث بعدها إلا ما كان في خير». شرح صحيح مسلم (5/146).
وقال الحافظ ابن رجب: «ومتى كان السهر بلغو ورفث وهجاء فإنه مكروه بغير شك». فتح الباري (3/377).
ويذكر النووي الحكمة في ذلك فيقول: «وسبب كراهة الحديث بعدها أنه يؤدي إلى السهر، ويخاف منه غلبة النوم عن قيام الليل، أو الذكر فيه، أو عن صلاة الصبح في وقتها الجائز، أو في وقتها المختار أو الأفضل. ولأن السهر في الليل سبب للكسل في النهار عما يتوجب من حقوق الدين والطاعات، ومصالح الدنيا». 5/46
وكان عمر بن الخطاب "رضي الله عنه" يضرب الناس على ذلك ويقول: «أسمرا أول الليل ونوما آخره؟!»
قال القرطبي: إن الحكمة في كراهية الحديث بعدها أن الله تعالى جعل الليل سكنا، أي يسكن فيه، فإذا تحدث الإنسان فيه فقد جعله كالنهار الذي هو متصرف المعاش، فكأنه قصد إلى مخالفة حكمة الله تعالى التي أجرى عليها وجوده.
ولقد نقلت أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها عمل النبي " صلى الله عليه وسلم" بذلك، وحرصه عليه، فقالت: «ما نام رسول الله " صلى الله عليه وسلم" قبل العشاء ولا سمر بعدها» (صحيح الجامع).
لكن هذا، من جانب آخر، لا يعني أن نمضي الليل غافلين، فهناك سهر آخر مباح، ونسميه سهرا تجاوزا لأن حديثنا عن السهر فاسمه الأجمل الذي سماه به النبي " صلى الله عليه وسلم" هو القيام: قيام الليل.
قال تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى? أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا} (الإسراء:79).
وقال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا} (الزمر:9).
وفي حديثه " صلى الله عليه وسلم" الذي أخرجه مسلم في صحيحه يجعله " صلى الله عليه وسلم" أفضل الصلاة بعد الفريضة: «أفضل الصلاة بعد المكتوبة الصلاة في جوف الليل».
ويوصي " صلى الله عليه وسلم" بقيام الليل فهو عادة الصالحين: «عليكم بقيام الليل؛ فإنه دأب الصالحين قبلكم، وقربة إلى الله تعالى، ومنهاة عن الإثم، وتكفير للسيئات، ومطردة للداء عن الجسد» (صحيح الجامع).
هكذا هو التوازن الجميل الرائع في الإسلام، نوم مبكر في الساعات الأولى من الليل، الساعات التي أكد العلماء أن نوم ساعة منها خير من نوم ثلاث ساعات بعد منتصف الليل الذي هو أقرب إلى السحر، وأفضل في القيام.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجلة الوعي الإسلامي