كان لفضيلة الشيخ والأستاذ الأديب علي الطنطاوي - رحمه الله - دورٌ بارز ومتميِّز في ميدان الرحلات؛ لكثرة رحلاته وتنوعها، واتساع مداها؛ ولتناوله هذه الرحلات فيما كتب من مقالات، وما نُشر من مؤلفات.
ولكثرة رحلات الشيخ علي الطنطاوي؛ فلن أتناول منها إلا رحلتين:
1- رحلته عبر صحراء الحجاز:
أما الأولى منهما: فهي رحلته إلى قلب الصحراء، التي لم يكن فيها طريق معبَّد ولا ممهَّد، وقد اضطُّر ورفاقه في الرحلة إلى أن يَبعُدوا عن الطرق المسلوكة، فامتطوا خمس سيارات، وانطلقت القافلة من دمشق عام 1353هـ - 1934م؛ لاكتشاف طريق بري للحج بالسيارات، يربط الشام بمكة المكرمة، وحالت السلطة في شرقي الأردن أيام الاحتلال الإنكليزي دون مرورهم فيها، فاضطُّروا إلى الضرب في أعماق البادية، مبتعدين عن المناطق المأهولة، أو الخاضعة لسيطرة أبي حنيك (غلوب باشا)، ولاقَوا في ذلك الطريق أهوالاً، ومشاق تتضاءل أمامها معاناة المسافرين على الجمال؛ فالطريق بين دمشق ومكة يقطعها راكب السيارة حديثاً في أقل من يوم، ولكنهم قضوا ثمانية وخمسين يوماً في رحلتهم تلك.
فقدانه مذكرات الرحلة:
وقد كان الطنطاوي عازماً على تسجيل رحلته هذه، وتدوين كل ما يلاقيه فيها، أو يطلع عليه من معالم جغرافية واجتماعية؛ يقول: "وعزمتُ أن أدوِّن الرحلة، ولا أكتفي بما تحمل ذاكرتي؛ فاتخذت دفتراً كتبت فيه كلَّ طريق مشينا فيه، وكلَّ جبل مررنا به، وكلَّ أرض حللنا بها، ودوَّنتُ أنساب وعادات وأحوال من لقينا فيها".
وهو بذلك يحاول أن يجعل وصف رحلته أدقَّ وأعمق ما يكون.
ولكنه فقد دفتره هذا -بكلِّ ما فيه من معلومات- قبل وصوله إلى المدينة المنورة؛ فاضطرَّ إلى الاعتماد فيما كتب بعد ذلك على ذاكرته، وبعث مقالاته إلى مجلة "الرسالة" في القاهرة، و"ألف باء" في دمشق، كما أنه عاد إلى هذه الرحلة وتحدث عنها في ذكرياته، في حدود عشر حلقات من الجزء الثالث.
وهو يصور لنا فيما كتبه عن رحلته هذه الطبيعة القاسية للأراضي التي مرَّ فيها، فهي جبال وصحاري وبواد لم تطأها أقدام مسافرين من قبل؛ لأنهم اضطروا إلى الابتعاد عن الطرق المسلوكة من قبل؛ فيقول مثلاً: "وصلنا إلى حَرَّة من أوسع الحِرَار وأعجبها، مستويةً من الأراضي، مفروشة بحجارة سوداء لماعة، أكثرها حاد الأطراف كالسكاكين، وكنا ننزل من السيارة فنزيح الأحجار من طريقها، وإذا بلغنا هضبة لا تقوى السيارة على صعودها ربطنا السيارة بالحبال وجررناها ودفعها ناس من خلفها، وقطعنا تسعين كيلاً، خرجنا منها فوجدنا أنفسنا أمام (مركز الأزرق) الحدود الذي هربنا منه!! ".
عيوب الرحلة:
ويقول في مكان آخر: "حتى الطبيعة من حولنا لا أحسُّ منها إلا ما يبعث الخوف وينفي الأمان؛ تلال الرمل، وصخور الجبال، وأرض تشتعل رمضاؤها، وتنفث لهباً سماؤها، وسرابٌ رأيته أول مرة فحسبته ماء! فهو كالشهرة والمجد والجاه؛ يتمناها المحروم، ولا يشعر بالمتعة بها مَنْ أوتِيَها".
ولم يتحرج عن ذكر عيوب هذه القافلة، وسلبياتها، وأخطائها، ونواقصها؛ فلم يكن معهم خريطة للمنطقة، ولا بوصلة، ولا أمير للركب: "وكنا -كعادتنا دائماً- جميعاً أمراء؛ فكانت رحلتنا مثلاً في باب عدم التنظيم، أي إنها المَثَل الكامل للفوضى".
وفوق كل ذلك؛ اتخذوا دليلاً في الصحراء، تبين لهم -بعد فوات الأوان- أنه جاهل لا يعرف الطرق، ولم يركب في هذه الصحراء سيارةً من قبل! أو أنه قليل الخبرة، ولكنه خيرٌ منهم؛ فهم لا خبرة لهم.
في مركز حدود السعودية:
وكان يقف طويلاً عند عادات أهل البادية الذين مروا بهم، فوصفهم، ووصف مساكنهم ومعيشتهم وتقاليدهم، فيقول عن وصولهم إلى أول مركز حدود للمملكة العربية السعودية: "رأينا ثلاثة شبان بأثواب عربية، فوقها رداءٌ عسكري، يهبطون لاستقبالنا، بوجوهٍ يشرق فيها الكرم، وعليهم مناطق (الرَّصاص)، وبأيديهم بنادق جديدة، وعليها كتابة قرأتها فإذا هي: (وقفٌ لله -تعالى- وقفه عبدالعزيز).
وساروا أمامنا حتى بلغنا الخِبَاء في أعلى التل، فإذا فيه البُسُط والجلود، ورَحْلُ جملٍ يتكئ عليه الجالس، وفي وسَط الخِبَاء حفرةٌ فيها نارٌ موقدةٌ، حولها دِلالُ القهوة، وواجبهم الرسمي أن يتحققوا من أسمائنا، ويستقرؤوا أحوالنا، وهم في حَيرة من أمرهم بين هذا الواجب الرسمي وبين كرم المضِيف، حتى حلَّ هذه المشكلة كبير الرحلة الشيخ ياسين الروَّاف، فأطلعهم على الجوازات، وبعد أن أدَّوْا واجب الوظيفة، تفرغوا لأداء واجب الضيافة العربية".
مساجد (القُرَيَّات):
كما أنه يصف المساجد في (القُرَيَّات) في تلك الأيام فيقول: "والمساجد خاليةٌ من الزخارف، دانيةٌ السقوف، تقوم سقُفُها على عُمُد كثيرة متقاربة من جذوع النخل ومن اللَّبِن، وأرضها مفروشةٌ بالرمل، لا سجادة ولا بساط ولا حصير! ".
ولا يسكت عمَّا يرى أنه مخالفٌ لرأيه؛ فيقول: "أنا رجلٌ سلفيٌّ، ولكني لست ظاهرياً أتسمك بحرفيَّة النص، وأحبس نفسي في حدود الألفاظ. فلما كانت أرض البيوت من التراب؛ كانت المساجد كذلك، أما أن نتخذ لبيوتنا أغلى السجاد العجمي، ثم نجعل أرض المسجد من التراب، وندوس عليه بالأحذية!! فلا".
مجلس الملك عبدالعزيز:
ويتابع رحلته إلى تَبُوك، ثم المدينة، فجُدَّة ومكة، حيث أمضَوا أسبوعين، ويصف زيارة الوفد للملك عبدالعزيز:
"دخلنا مجلس الملك فقام لنا، وكان يقوم للداخل! ورأيتُ أولاد الملك صفّاً عن يمينه على ترتيب أعمارهم، ورأيتهم إن جاء أمير منهم تنحى له مَنْ هو أصغر منه ولو بأسبوع، حتى يأخذ مكانه بحسب عمره، وكان يدخل عليه من الناس مَنْ شاء، وكان أهل البادية يدعونه باسمه: (والله يا عبدالعزيز)!! ".
من مصاعب الرحلة:
ولم تكن روحه المرحة تفارقه في كتاباته عن رحلته هذه، وهي روحٌ تَشيع في كثير من كتاباته وأحاديثه، فهو يتحدث بعد مفارقتهم تَبُوك أنهم مروا بجوار خط سكة الحديد، والأرض قاسية، أو فيها رمالٌ تغوص فيها عجلات السيارات، فاقترح أحدهم أن يستفيدوا من طريق القطار الممهَّد أو من السكة الملساء المستوية، فأعجبهم الاقتراح، وجرُّوا السيارات حتى صعدت إلى طريق القطار، وبذلوا في ذلك جهداً كبيراً؛ لأن جنبات الطريق شديدة الانحدار، فلما وصلوا وسارت السيارات فوق الطريق لاقَوا من الاهتزازات العنيفة بسبب العوارض التي تمسك القضبان الحديدية، فكانت أقسى عليهم من الحفر ومن الصخور، فآثروا بعد ذلك السير على الأرض، وتركوا خطَّ القطار، وأنزلوا السيارات، فلاقَوا في إنزالها أشد مما لاقَوا في رفعها، خوفاً من انزلاق السيارات وانقلابها، وما أكثر المشاهد المضحكة في سرده للمواقف العصيبة!!.
2- رحلته إلى إندونيسيا:
وإذا كانت رحلته إلى الحجاز غلب عليها وصف الطبيعة القاسية، وعرض الأهوال والمخاوف التي لاقتها القافلة؛ فإن له رحلة أخرى أبعد مدى، وأطول زمناً، وأمتع طبيعة، وألين جانباً، إنها رحلته إلى إندونيسيا، التي قام بها عام 1954م، في وفد أرسله (المؤتمر الإسلامي) الذي انعقد في القدس لنُصرة فلسطين، وشرح القضية للمسلمين؛ ليشاركوا فيها جهاداً بأموالهم.
وقد استغرقت رحلته هذه ثمانية أشهر، جال خلالها في أرجاء العالم الإسلامي شرقاً، حتى وصل إلى إندونيسيا، مروراً بالعراق وباكستان والهند وبورما وسيام والملايوا وسنغافورة، وبعد أن عاد سجَّل رحلته هذه عبر أحاديثه الإذاعية، ومقالاته في مجلة "المسلمون"، ثم جمع ما أذاع وما نشر في كتاب اسمه "في إندونيسيا..صورٌ من الشرق"، وتحدث عنها أيضاً في "ذكرياته".
وهو كلما وصل فيما كتب إلى دولة أو مدينة؛ وقف عند طبيعتها، يستجلي جمالها وخضرتها، وأنهارها الجارية، وجوِّهاً اللطيف، وتحدَّث عن تاريخها الغابر، وعن وصول الإسلام إليها، وتناول واقعها المعاصر من ثوراتها التي أوصلتها إلى الاستقلال، وحركاتها السياسية، وتطوراتها الاجتماعية والعمرانية، وعادات شعوبها، وكأنه آلة تصوير للصورة والصوت، مع لمس المشاعر والأحاسيس والعقائد والمواقف.
(جَاوَة) جنة الدنيا:
فهو عندما وصل إلى (جاكرتا) رآها جنة الدنيا، وعدَّها (سويسرا الشرق)، فيقول:
"وليست جنة الدنيا الشام ولا لبنان ولا سويسرا، ولكنها (جَاوَة)، مَنْ رآها فقد علم أني أقول حقّاً، ومَنْ لم يرها لم يغنه عن مرآها البيان! أمضيتُ فيها يومين، ما رأيت في حياتي يومين كانا أمتع لنفسي متعةً، وأحلى في عيني منظراً، وأبقى في قلبي أثراً منهما، قطعت فيها الجزيرة بالقطار، في طريقٍ ما رأيتُ ولا سمعت - ولا أظن أني سأرى أو أسمع - أن في الدنيا طريقاً أجمل منه".
وكان يقف في وصفه عند بعض مغانيها؛ فيصور بقلمه جمالها.
بين الماضي والحاضر:
وهو يتناول في الحديث عن إندونيسيا دخولَ الإسلام إليها من قبل 650 سنة، أي قبل أن يصل إليها ابن بطوطة في رحلته الطويلة، على أيدي التجار المسلمين، وقيام دولة إسلامية فيها، صارعت بعد ذلك الاستعمار البرتغالي، ثم الهولندي، واستئنافها الثورة في أواسط القرن العشرين، حتى نالت استقلالها عام 1945م.
ولم ينسَ أن يعقد فصلاً للحديث عن وصف ابن بطوطة لجزيرة (جاوة) -يقصد (سومطرة)- وإبرازه جمالها، وأنواع أشجارها، وعادات أهلها وملابسهم في تلك الأيام.
كما تحدث عن واقعها السياسي، ودور الحركة الإسلامية والجمعيات والأحزاب الإسلامية؛ ومنها (شركة إسلام)، و(الجمعية المحمدية)، و(مجلس الشورى الإسلامي- حزب ما شومي)، و(جمعية نهضة العلماء)، و(الجماعة الإسلامية).
كما تحدث عن (دار الإسلام) في إحدى جزر إندونيسيا، وعن الحركات التنصيرية فيها، والمدارس الأهلية والإسلامية.
مشاهد من إندونيسيا:
ويتناول عادات أهلها وطباعهم فيقول: "والقوم في إندونيسيا أرقُّ الناس نفساً، وأرهفهم حسّاً لا يحتملون شدةً ولا عنفاً، ولقد لمتُ السائق مرةً على ذنب أذنبه، ورفعت صوتي عليه؛ فبقي أياماً متألماً! وما سمعتُ في إندونيسيا ضجةً، فالشوارع تكاد تكون هادئة، والكلام يكاد يكون همساً، وما رأيت فيها (خناقة)، و(الخناقات) في الشوارع مقياس أعصاب الأمم، وفيها لا يكون سبٌّ أبداً؛ لأن لغتهم -كما أظن- خالية من ألفاظ السباب!! ".
ويتحدثُ عن وسائل النقل في داخل (جاكرتا)، وأكثرها انتشاراً الدراجات، حتى ظنَّ ورفيقه -عند جولته الأولى فيها- أن هناك موسم سباق بالدراجات (الهوائية)! يقول: "يركبها الصغير والكبير، والرجل والمرأة، وربما أردفت الفتاة وراءها أخرى أو رجالاً، لا يرون في ذلك بأساً! وإن بدا من الراكبة ما تخفي الفتاة عادةً شرعاً من أعضائها!!.
وأغرب من ذلك -في التكشُّف- أن فيها نهراً فيه ماءٌ قليلٌ، ينزل إليه الرجال والنساء عراةً؛ إلا ما يستر السوأة الكبرى، فيغتلسون معاً! ولم أجد من ينكر عليهم هذا المنكر!! ".
وهذا من استطرادات الطنطاوي التي اشتهر بها في أحاديثه، وفي كتاباته أيضاً.
ثم يعود ليكمل حديثه عن وسيلة نقل أخرى هي (الرَّكْشَة)، وهي: "عربةٌ صغيرةٌ لها مقعدان، يجرُّها إنسانٌ! يعدو بها حتى يتصبب عرقاً ويلهث تعباً".
ثم يذكر أنواعها المتطورة، ويقارن بينها وبين مثيلاتها في (كلكتا) و(كراتشي).
عجبٌ من عجب!!
ويصف احتفال المسلمين -هناك- بعيد نزول القرآن!! ويحددون له يوم 17 رمضان، فيقول: "يجعلونه أكبر أعيادهم، ويحتفلون به احتفالاً ضخماً في القاعة الكبرى من قصر الرئاسة، ويشترك رجالهم ونساؤهم في الاحتفال، يجلس الرجال في المقاعد اليمنى، والنساء في المقاعد اليسرى، لا يتجاورون في المجالس، وأكثر النساء الحاضرات قد ألقينَ المناديل على رؤوسهنَّ، فسترنَ بها شعورهنَّ. وافتتحت الحفلة بآيات من القرآن، تلتها قائمةً أمام المذياع زوجة الرئيس سوكارنو، بصوت رخيم، وقراءة فصيحة صحيحة المخارج، وقد عجبت من قراءتها القرآن دون الرجال فعجبوا من عجبي!! ".
تصرفات سلبية: وإذا كان يسهب في وصف جمال البلاد، والجوانب الإيجابية في سلوك أهلها ومعاملاتهم، فإنه لا يسكت عن إبراز الجوانب السلبية والعيوب في تصرفات بعض مَنْ تعامل معه أو ما رآه، فهو لم يسكت عن التكشُّف والتعرِّي في أحد أنهار (جاكرتا)، وتحدَّث عن تصرف أحد مرافقيهما اللذَين انتدبتهما الحكومة لذلك: "وكان معنا مرافقان يتكلمان العربية؛ واحدٌ من وزارة الشؤون الدينية، عالمٌ فاضلٌ أمينٌ صادقٌ، وآخر من وزارة الخارجية، رأيت الكثير من شرِّه وضرِّه، وتعلَّمت منه أن الكذب والاحتيال بضاعةٌ موجودةٌ في كل مكان، وأن الواحد ربما أساء بفعله إلى بلد بكامله، فقد كان يأخذ السيارة المخصصة لنا ويدعنا بلا ترجمان، نستأجر السيارات، ويأكل في المطعم على حسابنا، وهو يأخذ من الحكومة ما يدَّعي أنه صرفه علينا لأننا ضيوفها!! ".
(الجودك):
ويصف طعامهم السائد فيقول: "وهؤلاء يأكلون دائماً الرز المسلوق، الذي يخلطونه بالفليفلة، يعملونه كـ (جرادق) رمضان، والموز المشوي والمقلي والمطبوخ، والشاي البارد بلا سكر".
"وكنتُ كلما شكوتُ من هذا الطعام قالوا: ستذوق (الجودك)؛ فتعرف ما لذة الطعام الإندونيسي، فهو أفخر طعام في الدنيا! فإذا بي أجد في فمي (شوربة) زيت الخروع بصبغة اليود!! ولم أستطع أن أبتلع اللقمة؛ فقلت: واشوقاه إلى الشام وطعام الشام!! ".
ولم يَفُتهُ الحديث عن المساجد في (جاكرتا)، وسعتها وجمالها.
والحديث عن رحلات الشيخ علي الطنطاوي يطول بمقدار طول حديثه هو عن هذه الرحلات، الذي امتاز بدقة الوصف، وكثرة التمثيل، والإسهاب، وكثرة الاستطراد، كما امتاز بأسلوبه الأدبي الرشيق، الذي جعل رحلاته تتقدم على كثير من كتب الرحلات الحديثة، التي اهتمت بالموضوعية أكثر من اهتمامها بالأسلوب.