تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم وتوقيره شعبة عظيمة من شعب الإيمان، ومن حقه صلى الله عليه وسلم على أمته أن يُعظم ويُوَقر، قال الله تعالى: {لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ}(الفتح: 9)، قال ابن كثير: "قال ابن عباس وغير واحد: يعظموه، {وَتُوَقِّرُوهُ} من التوقير وهو الاحترام والإجلال والإعظام"، وقال السعدي:"{وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} أي: تعزروا الرسول صلى الله عليه وسلم وتوقروه أي: تعظموه وتُجِّلوه، وتقوموا بحقوقه، كما كانت له المنة العظيمة برقابكم". وقال ابن تيمية: "ومن ذلك: أن الله أمر بتعزيره وتوقيره فقال: {وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ}(الفتح: 9)، والتعزير: اسم جامع لنصره و تأييده و منعه من كل ما يؤذيه، والتوقير: اسم جامع لكل ما فيه سكينة وطمأنينة من الإجلال والإكرام، وأن يعامل من التشريف والتكريم والتعظيم بما يصونه عن كل ما يخرجه عن حد الوقار".
ومظاهر وصور توقيرنا للنبي صلى الله عليه وسلم كثيرة جدا، منها: طاعته وعدم معصيته، واتباعه والاقتداء به، والأدب معه، والصلاة عليه، وإنزاله مكانته صلى الله عليه وسلم بلا غلو ولا تقصير، وعدم ذكر اسمه مُجَرداً، أو رفع الصوت فوق صوته، أوترك سنته أو الاستخفاف بها، أوْ رد بعض أحاديثه الصحيحة بحجة مخالفتها للعقل، وعدم تمشيها مع الواقع، أو بالدعوى الباطلة بالعمل بالقرآن وحده وترك ما سوى ذلك..
ومن مظاهر وصور توقيرنا للنبي صلى الله عليه وسلم: توقيره في أصحابه رضوان الله عليهم، وذلك بحبهم وتوقيرهم والأدب معهم، قال القاضي عياض :"واعلم أن حرمة النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته وتوقيره وتعظيمه لازم كما كان حال حياته، وذلك عند ذكره صلى الله عليه وسلم، وذكر حديثه وسنته وسماع اسمه وسيرته، وتعظيم أهل بيته وصحابته".
توقير النبي صلى الله عليه وسلم في أصحابه:
الصحابي هو مَن لقيَ النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به ومات على ذلك، والصحابة رضوان الله عليهم هم خير الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم، وقد أجمع المسلمون ـ سلفاً وخلفاً ـ على أنّهم صفوة الأتقياء والأولياء، شرّفهم الله بصحبة خاتَم وأفضل أنبيائه، وقد أثنى ربهم عليهم أحسن الثناء ورفع ذكرهم في التوراة والإنجيل والقرآن، ووعدههم المغفرة والأجر العظيم فقال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا}(الفتح:29)، وأخبر في آية أخرى برضاه عنهم، ورضاهم عنه فقال: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ}(التوبة:100)، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم عنهم: (لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه) رواه البخاري. المُد: هو ملء كفي الرجل، والنصيف يعني النصف، والمعنى كما قال الطيبي: "أنه لا ينال أحدكم بإنفاق مثل أُحُدٍ ذهباً من الفضيلة والأجر ما ينال أحدهم بإنفاق مُدَّ طعام أو نصفه لما يقارنه من مزيد الإخلاص وصدق النية وكمال النفس".
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (سُئِلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أي النَّاسِ خير؟ قال: أقراني ثم الذين يلونَهم ثم الذين يلونهم) رواه مسلم، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خَيْر أُمَّتي القرن الذي بُعثتُ فيه، ثم الذين يلونهم) رواه أبو داود، وعن أبي بردة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (النجوم أمنة للسماء فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد، وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون) رواه مسلم.
ومن الجفاء مع النبي صلى الله عليه وسلم المنافي لحبه وتوقيره: الانتقاص من قَدْرِ أحدٍ من أصحابه رضوان الله عليهم، فضلاً عن سبه وشتمه والانتقاص منه، فهم أصحابه الذين صاحبوه، وأحبهم وأحبوه، وكان لهم شرف صحبته، وللعلماء أقوال كثيرة في تحذيرهم من سب أحدٍ من الصحابة رضوان الله عليهم أو الانتقاص منه، ومن ذلك:
قال القاضي عياض في كتابه "الشفا بتعريف حقوق المصطفى": "ومن توقيره وبره صلى الله عليه وسلم توقير أصحابه، وبرهم، ومعرفة حقهم، والاقتداء بهم، وحسن الثناء عليهم، والاستغفار لهم، والإمساك عما شجر بينهم، ومعاداة من عاداهم .. وأن يلتمس لهم فيما نُقِل عنهم من مثل ذلك فيما كان بينهم من الفتن أحسن التأويلات، ويخرج لهم أصوب المخارج، إذ هم أهل ذلك ولا يذكر أحد منهم بسوء، ولا يغمص (لا يعاب) عليه أمر، بل نذكر حسناتهم وفضائلهم وحميد سيرهم، ويسكت عما وراء ذلك، كما قال صلى الله عليه وسلم (إذا ذكر أصحابي فأمسكوا)، قال الله تعالى {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}(الفتح:29) إلى آخر السورة، وقال {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ}(التوبة:100)، وقال تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ}(الفتح:18)، وقال: {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ}(الأحزاب:23)".
وقال النووي: "الصحابة كلهم عدول، من لابس الفتن وغيرهم بإجماع من يُعْتدَّ به".
وقال ابن حجر: "اتفق أهل السنة على أن الجميع عدول ولم يخالف في ذلك إلا شذوذ من المبتدعة". وقال ابن تيمية: "الطعن فيهم طعن في الدين".
وقال الإمام أحمد: "إذا رأيت رجلاً يذكر أحداً من الصحابة بسوء فاتهمه على الإسلام".
وقال أبو زرعة: "إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق، وإنما أدّى إلينا هذا القرآن والسنة أصحاب رسول الله، وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا، ليبطلوا الكتاب والسنة، والجرح بهم أولى، وهم زنادقة".
وقال ابن الصلاح: "للصحابة بأسرهم خصيصة وهي أنه لا يُسأل عن عدالة أحد منهم، بل ذلك أمر مفروغ منه، لكونهم على الإطلاق معدلين بنصوص الكتاب والسنة، وإجماع من يعتد به في الإجماع من الأمة .. إن الأمة مجمعة على تعديل جميع الصحابة، ومن لابس الفتن منهم فكذلك، بإجماع العلماء الذين يعتد بهم في الإجماع، إحساناً للظن بهم، ونظراً إلى ما تمهد لهم من المآثر، فكأن الله سبحانه وتعالى أتاح الإجماع على ذلك لكونهم نقلة الشريعة، والله أعلم"..
وقال ابن عثيمين: " إنَّ سبَّ الصحابة ليس جرحاً في الصحابة رضي الله عنهم فقط، بل هو قَدْح في الصحابة وفي النبي صلى الله عليه وسلم وفي شريعة الله، وفي ذات الله عز وجل. أما كونه قدْحاً في الصحابة فواضح. وأما كونه قدحاً في رسول الله صلى الله عليه وسلم فحيث كان أصحابه وأُمَناؤه وخلفاؤه على أمته بل ورفيقي قبره (أبو بكر وعمر) من شرار الخلق ..!! وفيه قدْح في رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجه آخر، وهو تكذيبه فيما أخبر به من فضائلهم ومناقبهم، كما فيه اتهام للنبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يعرف كيف يربي أصحابه. وأما كونه قدحاً في شريعة الله، فلأن الواسطة بيننا وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم في نقل الشريعة هم الصحابة، فإذا سقطت عدالتهم لم يبقَ ثقة فيما نقلوه من الشريعة، وأما كونه قدحاً في الله سبحانه وتعالى، فحيث بعث الله نبيه في شرار الخلق، واختارهم لصحبته وحمل شريعته ونقلها لأمته، وكذا أنه سبحانه وتعالى مدحهم وأثنى عليهم في كتابه، فكيف يكون ذلك وهو يعلم أنهم يرتدون وينحرفون..؟! فانظر ماذا يترتب من الطوام الكبرى على سب الصحابة!!".
الصحابة رضوان الله عليهم اختارهم الله وشرفهم بصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، ومذهب أهل السنة والجماعة فيهم وسط بين الإفراط والتفريط، فليسوا من المفرطين الغالين الذين يرفعونهم إلى مالا يليق إلا بالله أو برسله، وليسوا من المفرطين الجافين الذين ينتقصون من أحدٍ منهم أو يسبونه، قال النووي: "ومذهب أهل السنة والحق إحسان الظن بهم، والإمساك عما شجر بينهم، وتأويل قتالهم، وأنهم مجتهدون متأولون، لم يقصدوا معصية ولا محض الدنيا، بل اعتقد كل فريق أنه المحق، ومخالفه باغٍ فوجب عليه قتاله ليرجع إلى أمر الله، وكان بعضهم مصيباً وبعضهم مخطئاً معذورا في الخطأ لأنه اجتهاد، والمجتهد إذا أخطأ لا إثم عليه".
لقد عميت بصائر أقوام فتنقصوا من بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وطعنوا فيهم وسبّوهم، ومن ثمَّ كان واجباً على من أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يذبَّ عن عرض أصحابه الكرام باللسان والبيان، فحبهم رضوان الله عليهم والدفاع عنهم دينٌ يُدانُ به، وقُرْبَى يتقرب بها إلى الله تعالى، وتوقيرهم والأدب معهم ومعرفة فضلهم من صور ومظاهر حبنا وتوقيرنا لنبينا صلى الله عليه وسلم، فهم أصحابه الذين تشرفوا بصحبته، وتعلموا وتربوا على يديه، وهو القائل صلى الله عليه وسلم عنهم: (لا تسبوا أصحابي، فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه) رواه البخاري، ومن ثم كان الرعيل الأول من السلف في القرون الخيرية كابن المبارك ومالك وغيرهما يقولون: "علموا أولادكم حب صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم".