ينظر كثير من النقاد للأدب الإسلامي - حين يريدون مناقشة أعمال مبدعيه - نظرتهم للمناهج الأدبية الأخرى -على اختلاف أطروحاتها الفكرية والعقدية والفنية -ويعاملونه بالمعايير الفنية ذاتها؛ دون نظر للمضامين والمقاصد، حتى لو كانت هادمة، أو فوضوية، خارجة مستبيحة، أو متمردة على الثوابت اللغوية والعقلية والإيمانية.
ولا أظن هذا صوابا على إطلاقه؛ بل لابد للناقد والقارئ للشعر الإسلامي من مراعاة طبيعة الأدب الإسلامي وخصائصه، حتى يمكن النظر إليه نظرة نقدية صحيحة، وضابطة، ومؤثرة. تماما كما إذا أردنا أن نقرأ نصا فرعونيا، أو إغريقيا، أو عبريا، أو إنجيليا، أو استشراقيا، أو حداثيا؛ فإن من البديهي أن نقرأه من خلال زمانه، وثقافات قائله، ودلالات ألفاظه في زمانه؛ وإلا فسنكون قد جنينا على الحقيقة، وأردنا أن نفرض على الطاووس مشية الأسد، وعلى الصرد انقضاضة النسر، وما هذا بعلم ولا بمنهج.
ويوضح هذا اختلاف دلالات الألفاظ باختلاف وضعها اللغوي أو العرفي أو الشرعي أو الاصطلاحي أو العامي:
فماذا تعني كلمة الفاعل مثلا؟
إن لها دلالة عند النحاة تختلف عنها عند الفقهاء، كما تختلف في دلالتها عند الفلاسفة، وعند العامة، وعند المعجميين؛ فلو أن أحدا قرأها وفق رؤيته هو - دون إخضاعها لسياقها وسائقها - لكان متجنيا، أو متغابيا!
وحين يتطلع بعض القراء أو النقاد للشعر الإسلامي، قد يلمسون فيه بعدا خطابيا، واستطرادات تقريريّة، وتضمينات مباشرة لنصوص ومعانٍ تراثية، فيعدون هذا نقصا فيه أو نقطة ضعف.
واسمحوا لي أن أزعم أن هذه طبيعة الأدب الإسلامي - سواء كانت مدحا له أم قدحا فيه – فهذا الأدب – في كثير من عطاءاته - غير حفي بالإلغاز والتهويم، ولا يرحب كثيرا بالألفاظ فاقدة الدلالات، ولا بغياب النسب بين العبارات، ويحتقر الضعف اللغوي العام (الذي يتجمل) به الأدب الحداثي، ويأبى التقنّع بالأساطير الوثنية أو المصطنعة، باعتبارها مهربا من التزام أو مواجهة، كما يرفض إهمال الجمهور بشكل عام، وعدم المبالاة به، كما هو الاتجاه السائد في بعض المدارس المعاصرة، التي تمارس نوعا من (البلطجة) النقدية على الساحة، وتصر على إقصاء الآخرين، والانتقاص منهم.
يقول الدكتور صابر عبد الدايم في حوار له مع رواء:
"ففي هذا الجيل - منذ السبعينيات إلى الآن - تكاثرت الرؤى والمناحي الإبداعية، فهناك أصحاب الرؤية الجديدة في كل الفنون الأدبية، ولهم نتاج ضخم كمّا، محدود كيفا، لأنهم حصروا أنفسهم في القالب المذهبي (يقصد المذهب الأدبي)، وسجنوا تجاربهم بين جدران المصطلحات والمذهب، وقديمًا قال الدكتور محمد مندور: إنك لا تجد أسس المذهب إلا عند صغار الشعراء والأدباء. ومن هذا الجيل من اتجه بشعره إلى الرمز والتعقيد والأحاجي، فغابت شمس الرؤية، ونضب معين التجربة.
وتيار الحداثة في كثير من نماذجه تصادم مع المألوف، ومزق جسد اللغة، ونشر الضبابية في الفضاء الشعري، ولم تنج من هذه الآفة إلا الأصوات القوية الموهوبة، ومن هذه الأصوات من اتجه بملكته وموهبته إلى حقل التجربة الإسلامية، واستدعاء وتوظيف الرموز الإسلامية - مكانا وأشخاصا، وتراًثا، ولغًة، وفكرا، ونبضا روحيا فعّالا صادًقا - وهذا هو التوجه الحضاري الأصدق.
خصائص وبصائر:
وقد أوجز الدكتور الشاعر عدنان النحوي - في دراسة له - خصائص الأدب الإسلامي التي أجتزئ منها:
. أنه عطاء الأديب المؤمن الملتزم.. وميدانه الكون والحياة كلها والإنسان، والدنيا والآخرة! وأنه ليس أدب الوهم والخرافة والأساطير، بل أدب الواقع الذي يفهم من خلال منهاج الله تعالى.
. وأنه أدب إنساني ينبع من حقيقة الآدمي وفطرته، ويعالج قضاياه، وهو عالمي بإنسانيته وامتدادها، وقوة أمته، وعالميّة رسالته.
. وهو ملتزم، يحترم الكلمة، ويراها مسؤولية، ويعتقد أن صاحبها محاسب عليها بين يدي الله في الآخرة، كما يحاسب عليها في الدنيا. والموعظة والوصيّة والنصيحة باب من أبواب هذا الأدب، ما دامت ترتقي بخصائصها الفنية والإيمانية.
. وهو أدب متميّز بهذه الخصائص الثابتة، التي لا تنحرف مع تيارات الأدب وعواصفه، بل يحافظ على استقلاله، وعدم تبعيّته".
هذه العناصر ذكرها الدكتور النحوي، وهي عناصر يكاد يتفق عليها المنظرون لإسلامية الأدب، وإن كان استخدام التقنيات الجديدة وتطوير أدوات التعبير، والتجديد في معجم الصور، والمفردات، وفي هندسة القصيدة التي يبدعها الشاعر الإسلامي - في إطار ضوابطه - باتت – فيما أرى - أمورا ضروريّة؛ حتى يستطيع الأدب الإسلامي منافسة الآداب الأخرى، وأن يقول كلمته، ويثبت حضوره الفني.
وإن تأخُّر بعض الأدباء الإسلاميين عن تطوير أنفسهم، وبقائهم في حالة اجترار، ليضر بهذا الأدب، ويخذله حيث يجب نصره..
وأنا شخصيا أمل في كثير من الأحيان سماع بعض القصائد الجديدة، من شعراء إسلاميين معروفين، إذ أخال أنني سمعت هذه القصيدة كلها أو قرأتها من قبل لكونها لا تحمل جديدا؛ بل أحس أنني أستمع للصور، والمفردات، والتعابير ذاتها، للمرة المليون!
لذلك فقد طربت حين قرأت بعض القصائد للمغربي أحمد الطريبق، والعراقي حكمت صالح، وديوان الراحل الكريم الشيخ إبراهيم عزت وأشباههم، لما لمست عندهم من إضافات وضيئة على مدرسة الشعر الإسلامي.
وعلى ضوء ما سبق ينبغي أن تقرأ قصائد الشعراء الإسلاميين وأن يؤخذ في الاعتبار: الزمان، والمكان، والغرض، والقائل، والجمهور، وإلا فستكون قراءتنا الناقدة ضربا من القصور، أو قراءة لغرض.