من الآيات التي وقع فيها التناظر في القرآن الكريم الآيتان التاليتان:
قوله سبحانه: {وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم} (المائدة:9).
قوله تعالى: {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما} (الفتح:29).
فقد خُتمت آية المائدة بقوله سبحانه: {لهم مغفرة وأجر عظيم} وختمت آية الفتح بقوله عز وجل: {منهم مغفرة وأجرا عظيما} فقال ها هنا: {منهم} ولم يقل في آية المائدة: (منكم) على مقتضى الخطاب، ولا {منهم} على الالتفات، وجاء مفعول {وعد} في آية المائدة جملة اسمية في موضع نصب على المفعولية، وجاء مفعول {وعد} في آية الفتح مفرداً، فما وجه ذلك؟
أجاب الإسكافي على هذا بما حاصله: أنه لما قال في آية المائدة: {وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات} عُلِم أنهم وعدوا بما هو حق لهم، فعدل عن ذكر المفعول إلى جملة تضمنت معناه، والجملة مبتدأ وخبر، وهي في موضع مفرد منصوب، كأنه قال: وعد الله الذين آمنوا مغفرةً.
وأما آية الفتح فإن {منهم} فيها متعلقة بـقوله: {الذين آمنوا وعملوا الصالحات} ومن تمامها، ولم يكن هناك ما ترتفع {مغفرة} به، فتعدى إليها الفعل {وعد} فجرى على الأصل في نصب المفعول به.
وإنما خُصت آية المائدة بأن جعل مفعولها جملة، وآية الفتح مفعولها مفرداً؛ لأن الأولى خطاب لقوم حثهم على توخي العدل فيما يحكمون به، وهو أعم من حث الصحابة الذين ذكرهم في آخر سورة الفتح، وأثنى عليهم بالشدة على الكفار، والرحمة للمؤمنين، وملازمة الركوع والسجود، وابتغاء رضوان الله، وأن مثلهم {كزرع أخرج شطأه} إلى آخر الآية، فخص هؤلاء بصريح المغفرة، وذكر أنه وعدهم ذلك.
وقال في الآية الأولى: {وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات} فكان إخباراً عن وعده إياهم، ثم أتى بخبر ثان، فقال: {لهم مغفرة} على معنى: إن أوفوا بذلك، ولم يحبطوه بالسيئات، فجوَّز منهم هذا، ولم يعلق (المغفرة) بـ {وعد} فيَعُدْ به إليها.
وفي الآية الثانية حقق (المغفرة) لهم، وعدى الفعل إليها، وكان كالحكم بأنهم يوافون الآخرة بأعمالهم الصالحة، وقد وعدهم الله تعالى عنها المغفرة والأجر العظيم، فوافقت كل آية ما خُصت به.
ووجه ابن الزبير الغرناطي الآيتين بكلام حاصله: إن آية المائدة لما تقدمها خطاب المؤمنين في قضيتين:
الأولى: قوله سبحانه: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة} إلى قوله: {لعلكم تشكرون} (المائدة:6).
الثانية: قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط} (المائدة:8).
وقد وقع فيما بين هاتين الآيتين قوله تعالى: {اذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به} (المائدة:7) ولم يقع أثناء هذه الآيات إشارة إلى غيرهم، ولا ذُكِر معهم أحد من سواهم، لم يحتج إلى تخصيص (الوعد) فأطلق القول، ولم يقيده بقوله: {منهم} ولا عمل الفعل {وعد} في مفعوله الثاني، كما جاء ذلك كله في آية الفتح، بل عدل عن عمله في لفظ (المغفرة) وجيء بالجملة في موضع المفعول، وجاء بالجملة الاسمية: {لهم مغفرة وأجر عظيم} على الابتداء والخبر؛ ليكون أبلغ في استحقاقهم ذلك.
وأما آية الفتح فأعقب بها التمثيل الجاري في ذكر الزرع في قوله تعالى: {يعجب الزراع لغيظ بهم الكفار} مع أن الموصوفين بقوله: {أشداء على الكفار رحماء بينهم} مع ما وصفوا به، قد عاصرهم، وكان معهم من عُلِمَ نفاقه، فمن كان يتظاهر بالإيمان ويُسِرُّ الكفر، كما أخبر سبحانه: {وإذا جاءوكم قالوا آمنا وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به} (المائدة:61) وقد صاروا معهم بظاهر أمرهم؛ دل على ذلك قوله تعالى: {ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم} (التوبة:56) وعرَّف سبحانه بأحوالهم، وحذر نبيه والمؤمنين منهم، فقال: {ولا تطع الكافرين والمنافقين} (الأحزاب:48) وقد شمل الكل عموم قوله سبحانه: {والذين معه} بظاهر الإيمان؛ إذ كانوا يتظاهرون بما وصف به المؤمنون، فجيء هنا بـ (الوعد) مُحْرَزاً، مخرجاً منه من كان يتظاهر بالإيمان، ويعد نفسه من المؤمنين، وليس منهم، فقيل: {وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم} فجيء بقوله: {منهم} ليفيد هذا المعنى الجليل، فـ (من) على هذا للتبعيض.
أما آية المائدة فلا يتناول قبلها مما ذكر من الآيات غير المخلص في إيمانه بخصوص خطابهم بما لا يتناول غيرهم من قوله: {يأيها الذين آمنوا} فخصصوا بالنداء، ولا يتناول إلا مؤمناً، أما (مع) من قوله في آية الفتح: {والذين معه} فيتناول المجتمعين في الظاهر من حيث أشخاصهم، وإن اختلفت قلوبهم، ويدل على ذلك قول المنافقين يوم القيامة للمؤمنين: {ألم نكن معكم} (الحديد:14) وجواب المؤمنين لهم بقولهم: {بلى} أي: قد كنتم معنا، ولكن لم تكونوا مخلصين. هذا معنى قولهم: {ولكنكم فتنتم أنفسكم} (الحديد:14) فقد كانت (معية) في الظاهر، وصح إطلاقها لغة، وهذا القدر من الاحتمال في اللفظ، وإن لم يكن مقصوداً في المعنى حسن التحرير، والتحرز في آية الفتح بقوله: {منهم}.
أما قوله في آية المائدة: {وعد الله الذين آمنوا} فقد تقدمه خطاب المؤمنين، وإنما الإيمان عمل قلبي؛ لأنه التصديق، فالتصديق حاصل على كل حال، كما لو قيل في آية الفتح: (والذين آمنوا معه). إذا تقرر هذا، فلا حامل غير التحرز بأن يقال: {منهم} لأنهم مستوون غير مختلفين في ظاهر ولا باطن، بخلاف آية الفتح؛ لما في ظاهر لفظ (مع) ما تقدم.
فإن قيل: وصْفُهم بما وُصِفوا به في آية الفتح يرفع الاحتمال المذكور، قيل: إذا أمكن رجوعه إلى الأكثر، واحتُمل ما ذُكِر من دخول المنافقين، لم يندفع ذلك الاحتمال، فورد كل من الآيتين على ما يناسب.
وقريب من التوجهين السابقين توجيه ابن جماعة لاختلاف ختام الآيتين، قال: إن آية المائدة عامة غير مخصوصة بقوم بأعيانهم، وآية الفتح خاصة بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وكان من جملة من صحبه منافقون، فقال: {منهم} تمييزاً، وتفضيلاً، ونصًّا عليهم، بعد ما ذكر من جميل صفاتهم.
وأيضاً، آية المائدة جاءت بعد ما قدم خطاب المؤمنين مطلقاً بأحكام الطهارة، والقيام بالقسط، فكأنه قال: من عمل بما ذكرناه، له مغفرة وأجر عظيم، فهو عام غير خاص بمعينين.
وقد وجَّه الكرماني اختلاف ختام الآيتين باختلاف الفواصل السابقة لكل آية؛ فلما كانت الفواصل السابقة لآية المائدة جاءت مرفوعة، جاءت الآية مرفوعة، ولما كانت الفواصل السابقة لآية الفتح منصوبة، جاءت الآية منصوبة.
فإن سأل سائل: كيف يحتمل قوله في آية الفتح {منهم} التبعيض، والقوم الذين أخبر الله عنهم بقوله: {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار} الآية، مع سائر ما وصفهم الله تعالى به، وأثنى عليهم بذكره، كلهم وُعِدوا مغفرة وأجراً عظيماً؟
والجواب عن ذلك من وجهين:
أحدهما: أن يقال: إن (من) في هذا المكان ليست للتبعيض، وإنما هي لتبيين الجنس، كأنه قال: وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات الذين هم مؤمنون وعاملون للصالحات، كما قال: {فاجتنبوا الرجس من الأوثان} (الحج:30) أي: اجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان.
الثاني: أن يكون التقييد للتحذير؛ لأنهم وإن علم الله تعالى منهم الثبات على ما هم عليه من العمل الصالح، فإنه لا يُخْليهم من الأمر والنهي والوعد والوعيد، على معنى: دوموا على ما أنتم عليه، فإن من داوم منكم عليه، فقد وعده الله تعالى مغفرة وأجراً عظيماً.
وقد تبين مما تقدم أن سياق كلٍّ من الآيتين هو العامل الأبرز في توجيه اختلاف ختام كل من الآيتين. والعلم أولاً وأخيراً عنده سبحانه.