في معاجم اللغة أن (الواو) و(الكاف) و(اللام) أصل صحيح، يدل على اعتماد غيرك في أمرك. من ذلك الوُكَلَة: الذي يكل أمره إلى الناس. والوكـَلُ: الرجل الضعيف، والعاجز الذي إذا نابه أمر لا ينهض فيه، بل يكِلُه إلى غيره. ويقولون: وُكَلَةٌ تُكَلَة. والتوكل منه، وهو إظهار العجز في الأمر، والاعتماد على الغير. وواكل فلان، إذا ضيع أمره متكلاً على غيره. وسمي الوكيل؛ لأنه يُوْكَل إليه الأمر. وواكلت الرجل، إذا اتكلتَ عليه، واتكل عليك. والتكلان: التوكل، بمعنى الاعتماد. والوَاكِل من الخيل: الذي يتكل على راكبه في العدو، ويحتاج إلى الضرب. والوَكال في الدابة: أن تسير بسير الآخر. و(الوكيل) في كلام العرب: هو المـُسْنَدُ إليه القيام بأمر من أَسْنَد إليه القيام بأمره. وفي الحديث قوله عليه الصلاة والسلام في دعاء المكروب: (اللهم رحمتك أرجو، فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين...) رواه أبو داود. قال الشيخ الألباني: إسناده حسن.
فإذا يممنا الوجه شطر المعنى الشرعي، وجدنا الإمام أحمد يقول: التوكل عمل القلب، ومعنى ذلك أنه عمل قلبي، ليس للجوارح فيه مدخل، وهو من باب الإدراكات والعلوم.
ولفظ (وكل) بمشتقاته ورد في القرآن الكريم سبعين مرة (70) جاء في اثنين وأربعين موضعاً بصيغة الفعل، من ذلك قوله عز وجل: {وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين} (المائدة:23) وجاء في ثمانية وعشرين موضعاً بصيغة الاسم، من ذلك قول الباري سبحانه: {والله على كل شيء وكيل} (هود:12). وأول ورود لهذا اللفظ في القرآن الكريم قوله سبحانه: {وعلى الله فليتوكل المؤمنون} (آل عمران:122).
ولفظ (وكل) بمشتقاته ورد في القرآن الكريم على أربعة معان:
الأول: بمعنى الاعتماد على الله، وتسليم الأمر إليه، وأكثر ما جاء هذا اللفظ بحسب هذا المعنى، من ذلك قوله عز وجل: {حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت} (التوبة:129) أي: على الله اعتمدت، وإليه فوضت جميع أموري. ونحوه قوله سبحانه: {على الله توكلنا} (الأعراف:89)، المعنى: على الله نعتمد في أمورنا، وإليه نستند فيما ينزل بنا من نوازل الدهر ونوائبه. ومن هذا القبيل أيضاً قول الحق تعالى: {وعلى الله فليتوكل المؤمنون} (آل عمران:122)، أي: من كان به ضعف من المؤمنين، أو وَهْن، فليعتمد على الله سبحانه، وليستعن به، يعنه على أمره، ويدفع عنه ما يراد به.
وقس على ذلك قوله عز من قائل: {وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين} (المائدة:23)، وقوله سبحانه: {ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه} (هود:123)، وقوله عز وجل: {وتوكل على الحي الذي لا يموت} (الفرقان:58)، وقوله تعالى: {فتوكل على الله إنك على الحق المبين} (النمل:79)، وقوله تبارك وتعالى: {ومن يتوكل على الله فهو حسبه} (الطلاق:3) كل هذا ونحوه بمعنى الاعتماد عليه سبحانه، وتفويض الأمر إليه.
الثاني: بمعنى الحافظ والقائم على الأمر، وهو كثير أيضاً، من ذلك قوله تعالى: {أم من يكون عليهم وكيلا} (النساء:109) المعنى: إن حُفظوا، وذبَّ عنهم في الدنيا، فمن الذي يحفظهم ويذُبُّ عنهم في الآخرة، ومعنى ْالاستفهام ها هنا، أنه ليس للعصاة يوم القيامة ناصر يذُّب عنهم. وعلى هذا المعنى أيضاً قوله سبحانه: {وكفى بربك وكيلا} (الإسراء:65) أي: عاصماً من القبول من إبليس، وحافظاً من كيده، وسوء مكره. ومنه أيضاً قوله تعالى: {وما أنا عليكم بوكيل} (يونس:108) أي: بحفيظ أحفظ أعمالكم، إنما أنا رسول رب العالمين. ونحو ما تقدم أيضاً قوله عز وجل: {أفأنت تكون عليه وكيلا} (الفرقان:43) قال الطبري: "أفأنت تكون يا محمد على هذا حفيظاً في أفعاله مع عظيم جهله". وقال القرطبي: "أي حفيظاً وكفيلاً حتى ترده إلى الإيمان، وتخرجه من هذا الفساد. أي: ليست الهداية والضلالة موكولتين إلى مشيئك، وإنما عليك التبليغ". وقال البغوي: "أي: حافظاً، يقول: أفأنت عليه كفيل تحفظه من اتباع هواه وعبادة من يهوى من دون الله؟".
وقس على ذلك قول سبحانه: {وما أنت عليهم بوكيل} (الأنعام:107)، وقوله عز وجل: {وما أنا عليكم بوكيل} (يونس:108)، وقوله سبحانه: {وكفى بالله وكيلا} (النساء:81، 142،171) (الأحزاب:3، 48)، فكل هذا ونحوه بمعنى الحافظ للأمر، والمدبر له.
وفي تفسير مقاتل بن سليمان عند تفسيره لقوله تعالى: {قل لست عليكم بوكيل} (الأنعام:66) قال: يعني بمسيطر، وكذلك فسر قوله عز وجل: {وما أنت عليهم بوكيل} (الأنعام:107)، يعني: ما أنت عليهم بمسيطر، ولم نجده لغيره فيما رجعنا إليه.
الثالث: بمعنى الرَّب سبحانه، جاء بحسب هذا المعنى قوله عز من قائل: {ألا تتخذوا من دوني وكيلا} (الإسراء:2) المراد بـ (الوكيل) هنا: الرب؛ لأنه يتكل عليه العباد في شؤونهم، أي: لا تتخذوا من دون الله شريكاً تلجئون إليه. قال ابن عاشور: "وقد عُرِف إطلاق (الوكيل) على الله في لغة بني إسرائيل، كما حكى الله عن يعقوب وأبنائه: {فلما آتوه موثقهم قال الله على ما نقول وكيل} (يوسف:66). وقد فسر الطبري (الوكيل) هنا بـ (الحفيظ) أي: ألا تتخذوا حفيظاً لكم سواي. وقال مجاهد: شريكاً. ومنه أيضاً قول الحق سبحانه: {لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا} (المزمل:9) قال الكلبي: ربًّا يتوكلون عليه في أمورهم، وهو يرجع إلى الحفظ -كما قال أبو هلال العسكري-؛ لأن رب الشيء يحفظه.
الرابع: بمعنى الشهيد، جاء وَفْق هذا المعنى قوله عز وجل: {وكفى بالله وكيلا} (النساء:81، 132) يعني: شهيداً، روي هذا عن ابن عباس رضي الله عنهما. ومثله قوله عز وجل: {والله على كل شيء وكيل} (هود:12) قال مقاتل: "يعني: شهيد بأنك رسول الله"، وقال القرطبي: "حافظ وشهيد". ومثله أيضاً قول الباري تعالى: {والله على ما نقول وكيل} (القصص:28) قال ابن عباس رضي الله عنهما: شهيد فيما بيني وبينك. وقال الطبري: {والله على ما نقول وكيل} يقول: والله على ما أوجب كل واحد منا لصاحبه على نفسه بهذا القول، شهيد وحفيظ".
وقد نحا شيخ المفسرين الإمام الطبري إلى تفسير (الوكيل) في العديد من الآيات بمعنى القيِّم على الأمر، والمدبر له، كقوله سبحانه: {والله على كل شيء وكيل} (هود12)، قال: "والله القيم بكل شيء، وبيده تدبيره". وكذا قال في تفسيره لقوله عز وجل: {وما أنت عليهم بوكيل} (الأنعام:107) قال: "لست عليهم بقيِّم؛ تقوم بأرزاقهم، وأقواتهم، ولا بحفظهم".
وخلاصة القول: إن لفظ (وكل) باشتقاقاته المختلفة أكثر ما جاء في القرآن الكريم بمعنى (الاعتماد) على الله سبحانه، وإسناد الأمر إليه، وجاء بكثرة أيضاً بمعنى (الحافظ) للأمر والمدبر له، وجاء بدرجة أقل بمعنى (الرب) سبحانه، وبمعنى (الشاهد) على الأمر.